آن أوان انطلاق الربيع الفلسطيني

آن أوان انطلاق الربيع الفلسطيني

14 نوفمبر 2019
+ الخط -
في وقت اجتاحت موجتا الثورات دول المنطقة العربية، من أجل تغيير الواقع المتردّي الذي تعيشه منذ عقود، ظهرت الأراضي الفلسطينية وكأنها خارج هذا الحراك الثوري. وعندما تأثرت مع موجة الربيع الأولى، انعكس ذلك في شعار "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، لكنه شعارٌ يعترض على مفهوم، ولا يعبر عن مطالب محدّدة قابلة للتحقيق، لأن قضية "إنهاء الانقسام" لم تكن بيد المطالبين بها، بل بيد القوى السياسية التي تقبض على السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكل واحدةٍ منهما تستطيع أن ترمي المسؤولية على الطرف الآخر. صحيحٌ أن الشباب الفلسطيني تحرّك تحت هذا الشعار، وهناك من تعرّض للقمع، ولكن أيا من السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة لم تقل إنها ضد الشعار الذي رفعته الحركة الشبابية، وبذلك سرعان ما فقدت الحركة زخمها وتعرّضت سريعاً للاحتواء، أو تم إفقادها المعنى، لأن الطرفين المسؤولين عن الانقسام ظهرا وكأنهما جزءٌ من الحراك الشبابي لإنهاء الانقسام في الوقت الذي يتحملان مسؤوليته، وقاما بتوقيع مصالحة لم تغير أي شيء فعلياً في واقع الانقسام. وبذلك لم يعد أحد يفهم ما الذي يجري، فقد تم إفقاد الحركة معناها، وتفريغها من المضمون، حتى قبل أن يتم توقيع المصالحة في القاهرة بين الطرفين. كان هذا في بداية موجة الثورات العربية الأولى. وإلى الآن، لم تجد الأراضي الفلسطينية وسيلتها وشعاراتها المناسبة لإطلاق ربيعها الذاتي. 
تحتاج الأراضي الفلسطينية ثورتها الخاصة، ليس كعدوى لموجة الربيع العربي الثانية فحسب،
على أهمية أن تُصاب الشعوب بهذه العدوى، بل لحاجتها الشديدة لكنس الواقع الفلسطيني الحالي مع الاحتلال، لأن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية لم تعد محتملة. ولم يعد الاحتلال وحده مشكلة الفلسطينيين، فسلطتا الأمر الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة باتتا عبئاً على النضال الفلسطيني، وعقبة في وجهه. لم تعد المشكلة في الانقسام فقط، بل في الأداء السياسي للقوى التي أوصلت الساحة الفلسطينية إلى أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية في غاية السوء، لم تصل إليها في ظروف السيطرة الكاملة للاحتلال. ومن مفارقات الحالة الفلسطينية التي تشبه فيها الحالة اللبنانية أن الأيادي الفلسطينية التي تصافحت لإنهاء الانقسام هي ذاتها الأيادي التي أسالت الدم الفلسطيني وتسببت في الانقسام، وهي ذاتها التي تجعله مستمراً. لذلك، لا يوجد اليوم بين القوى الفلسطينية من هو صالح لقيادة التجربة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، لقد باتت هذه القوى مشغولةً بنفسها ومشلولةً على الصعيد الوطني. بذلك يمكن القول، على مستوى الاستحقاق الوطني في مواجهة الاحتلال، باتت القوى الفلسطينية الممسكة بالساحة الفلسطينية عقبةً أمام فتح أفق أمام القضية الفلسطينية.
المرحلة التاريخية التي تمر بها التجربة الفلسطينية وتنوع المرجعيات والسلطات في الواقع السياسي الفلسطيني، هي ما يفسر الواقع الفلسطيني الخاص، والذي يبدو أنه يعيش خارج موجة التحرّر العربية الحالية. هناك سلطاتٌ فقدت مشروعيتها، وانتهت مدّتها، ما زالت الأطراف تتمسّك بها، مثل المشروعية الانتخابية التي انتهت مدتها، سواء مشروعية المجلس التشريعي، أو مشروعية الرئاسة. انتهت فترة ولاية المجلس التشريعي منذ زمن بعيد، وهذا ينطبق على الرئاسة. على الرغم من ذلك، هناك وزارتان، واحدة في الضفة الغربية تستند إلى مشروعية الرئيس المنتهية ولايته، وأخرى في قطاع غزة تستند إلى مشروعية المجلس التشريعي المنتهية ولايته أيضاً. ولكن المشروعية الانتخابية ليست الوحيدة من وجهة نظر السلطتين. هناك سلطة رام الله التي ما زالت تستند في مشروعيتها على منظمة التحرير التي تُعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي إطار تتحكّم فيه حركة فتح، والتي تم استدعاؤها من غياب 
طويل، بعد التشكيك في شرعية السلطة الفلسطينية في رام الله. وإذا كانت منظمة التحرير إطارا يضم مجموعة من الفصائل، فإن حركة حماس لا تعترف بالإطار التمثلي للمنظمة، لأنه، حسبها، افتقد إلى الوطنية بعد توقيع قادتها اتفاقات أوسلو، وبالتالي تستند "حماس" إلى مرجعية وطنية من دورها حركة مقاومة لها ائتلاف وطني معارض لاتفاقات أوسلو والسلطة التي انبثقت عنها.
المشكلة الأعقد في الإطار الفلسطيني أن السلطتين الفلسطينيتين، حتى لو تم توحيدهما في إطار اتفاق المصالحة، ليستا فعليتين، هما سلطتان استبداديتان في ظل الاحتلال، ولا ترقيان إلى مكانة الدولة الاستبدادية أو غير الاستبدادية، والأهم أنهما سلطتان ليستا مستقلتين، لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى المالي. وبالتالي، يقع الوضع الفلسطيني في خانة ليس لها توصيف في علم السياسة، سوى بوصفها مرحلة انتقالية استطالت وتشظت من دون أن تنتقل إلى شيء واضح في علم السياسة، فحتى لو خلصت كل النيات من أجل تحقيق المصالحة، هناك عقباتٌ كثيرة يمكن أن يثيرها الآخرون لعدم الوصول إلى تطبيق اتفاق المصالحة بين حركتي حماس وفتح. وفي مقدمتها الانتخابات الفلسطينية التي تتلهى السلطة في نقاشها هذه الأيام، مع أنها لا يمكن أن تتم مكتملة من دون الموافقة الإسرائيلية.
إذا كان صحيحا أن الوضع الفلسطيني ما زال يعيش معركة التحرّر من الاستعمار، فهذا يجب أن لا يشكل عائقاً أمام ربيع فلسطيني، بل يجعله أكثر إلحاحاً وضرورة، لكنس العفن المنتشر في الساحة الفلسطينية، سيكون ثورةً على السلطات الثلاث التي جلبت له الدمار والخراب، إسرائيل وسلطتي الانقسام في الضفة الغربية وقطاع عزة. لأن الترابط الموضوعي بين الثلاث هو الذي صنع الخراب الفلسطيني القائم اليوم. نقول هذا ليس بمعنى عمالة السلطتين لإسرائيل، إنما بمعنى أن هذه السلطات مترابطة موضوعياً في إنتاج الواقع الفلسطيني المزري. ولذلك، المهمة على الفلسطينيين اليوم هي التخلص من السلطات الثلاث لإعادة الاعتبار لشعب فلسطيني واحد وحر، وأرض فلسطينية واحدة وحرة.
إن واحدا من أهم معاني الربيع العربي، إعادة الاعتبار للبشر بوصفهم بشرا أحرارا يصنعون تاريخهم وأوطانهم بأنفسهم، وبما أن قضية فلسطين من عناوين الحرية في العالم، على الفلسطينيين أن يتشابهوا مع معنى وطنهم، وهم ينجزونه. آن الأوان للثورة على كل من يقف في وجه حرية فلسطين والفلسطينيين "فلسطين حرة كلكن برّه".
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.