في ذكرى رحيل عرفات

في ذكرى رحيل عرفات

13 نوفمبر 2019
+ الخط -
تزامنت الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، الأسبوع الحالي، مع تكرار رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لازمة "لا يوجد شريك فلسطيني للحوار"، والتي تُعدّ مبدأ مهماً في سياسة دولة الاحتلال الخارجية منذ إقامتها. كما عاد نتنياهو، وأكد الشرطين اللذين بقبولهما قد يولد مثل هذا الشريك أخيراً: "الاعتراف بإسرائيل دولة قومية يمارس فيها الشعب اليهودي حق تقرير المصير"، والقبول بأن تكون هناك سيطرة إسرائيلية أمنية كاملة على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. 
في الإعلام الإسرائيلي، ذهبت معظم التعليقات إلى أن خلفاء عرفات في قيادة السلطة الفلسطينية لم يتخلّوا عن طريقه الذي وُصف بأنه "طريق المفاوضات المترافق مع العنف والإرهاب"، ولذا أخفقوا في أن يقترحوا طريقاً آخر، وُصف بأنه "أكثر واقعية". ورأت تعليقات أخرى أنه، في أثناء السنوات التي انقضت منذ وفاة عرفات، فقدت القضية الفلسطينية مركزيتها في نظر العالم العربي، بل وفي نظر العالم الواسع.
ومثلما هي الحال الآن، لم تكن الحملة التي استهدفت عرفات، إبّان رحيله، محصورة في أحزاب اليمين أو الوسط الإسرائيلي، بل تعدّتها إلى أوساط "اليسار الصهيوني". فمثلاً في وقت وفاته، شبّهه أستاذ العلوم السياسية، شلومو أفنيري، بالزعيم النازي أدولف هتلر، وتمنّى على الفلسطينيين أن "يتحرّروا من إرثه حسبما أفلح الشعب الألماني في التحرّر من إرث هتلر"! ("يديعوت أحرونوت"، 14/11/2004). واستفظع الوزير يوسي بيلين، ضمن مقابلة مع صحيفة لوموند، الفرنسية، عدم قدرة عرفات على أن يخلع بزته العسكرية ولو لحظة واحدة، ما حدا أحد المعلقين في "هآرتس" (12/11/2004) إلى أن ينوّه بأن معظم الإسرائيليين الذين أشاروا باستعلاء إلى "العسكرية" الكامنة في شخص عرفات، وفي أدائه القيادي، لم ينتبهوا إلى أنهم هم أنفسهم يرتدون البزّة العسكرية، وإذا لم تكن بزّة مادية يمكن معاينتها لمساً ورؤية فهي بزّة ذهنية. وربما تبدو البزّات العسكرية للقيادة الإسرائيلية أكثر هنداماً، أو تم استبدالها بأخرى مدنية، ولكن هذه القيادة لم تتجاوز، في نضجها وتفكيرها، سقف الاعتماد على مبدأ القوة العسكرية، ولم تكفّ لحظة عن التفكير بمصطلحاتٍ أمنية تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه مسألة وجود إسرائيل عامة، ناهيك عن أن إسرائيل باقيةٌ، حتى إشعار آخر، مع قيادات تقفز إلى مياه الحلبة السياسية من صفوف العسكر. وهو ما ينطبق بالضبط هذه الأيام على قادة تحالف "أزرق أبيض" الذين يطرحون أنفسهم بديلاً للحكم القائم.
لا بد أيضا، في ذكرى وفاة عرفات، من استذكار عملية الشيطنة التي تعرّض لها قبل رحيله، والتي استندت إلى إرثٍ ضاربٍ في القدم في ممارسة الحركة الصهيونية منذ بداياتها، عندما صوّرت الإنسان العربي، لمجرّد كونه نبتةً أصيلةً في الوطن الذي طمعت في اغتصابه، وفي تجريد أصحابه منه، في أبشع هيئة. ولذا فما من شيءٍ، كان أكثر سهولة وخفة من العودة إلى هذا التصوير الشائه. لا يغيّر في هذا إن كانت لعرفات "يد مباركة" في السلام أم "يد متضادّة" في نقضه، لأن الطرف الذي يحدّد "البركة"، و"السلام" أيضاً، وبالتالي يحدّد ما يتضاد معهما، هو إسرائيل. ومثل هذه الممارسة يكون جمهورها المستهدف كله آذان صاغية، لسبب بسيط، أن هذا الجمهور يتقن جيداً تنميط شخصية الفلسطيني أو العربي، من أجل تدعيم "تصوره الذاتي" بالأساس.
وتؤكد دراسات أحد علماء النفس السياسي في إسرائيل أن الحاجة إلى إعلان وجود عدو مناوب تنبع، أولاً وقبل أي شيء، من عدة حاجات ومتطلبات للمجتمع والزعامة في إسرائيل، فهذا الأمر يتيح، أولاً، تعزيز تضامن الشعب الإسرائيلي في مواجهة ما ينظر إليه كعدو متربّص وخطر محدق، ويتيح ثانياً فهماً أفضل للحاضر الذي يتراءى بأنه جزءٌ من سياق تاريخي طويل، وربما حتمي، من الصراعات والحروب المفروضة على الشعب اليهودي، وثالثاً وأخيراً يتيح التهرّب من مواجهة المشكلات الحقيقية الماثلة أمام الدولة والمجتمع.