بعد الرئاسيات الجزائرية.. تجديد النخب أو دورانها؟

بعد الرئاسيات الجزائرية.. تجديد النخب أو دورانها؟

13 نوفمبر 2019
+ الخط -
نظّمت جامعة فرنسية، بعد أيّام من انطلاق موجة الربيع العربي، في العام 2011، ملتقى تمحورت إشكاليته على موضوع حيوي، نعيشه في العالم العربي: هل تفضي الانتفاضات (الثورات) في العالم العربي إلى تغيير داخل النظام أم إلى تغيير للنّظام؟ في الحقيقة، يعيش العالم العربي على وقع هذه الإشكالية، وينافح لتغيير المعادلة لإحداث تجديد/ دوران للنّخب، وليس للتّغيير، فقط، لأنّ التّجديد مغاير للتّغيير، وهو محور هذه المقالة على خلفية ما نراه ماثلا، أمام أعيننا، في الجزائر، بعد قبول سلطة الانتخابات ملفّاتٍ خمسة، جميعها لمرشّحين عملوا في ظلّ نظام الرّئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، وكأنّ الجزائر لا تحتوي، بين أبنائها، داخلها وخارجها، على رجال ونساء نظيفي الأيادي وأصحاب كفاءات ومهارات. 
تحتاج الأمم، للحفاظ على حيويتها، جيلا بعد جيل، على الأقل، إلى منظومة تجديد بيولوجية واجتماعية للنخب، حتى تبقى محافظة على حيويتها، وترفع تحديات البقاء على القمة والمنافسة عليها، وتعمل، لتجهيز تلك الظروف، على فرض حزمةٍ من الشروط التي تعدها ضرورية، بل حيوية للإبقاء على شعلة المنافسة المتكافئة بين فئات المجتمع، للوصول إلى تبوّء المكانة الرفيعة بأدوات العلم، الكفاءة والجاهزية الكاملة. ولهذا نرى الأمم المتقدمة ترعى التعليم، تهيئ أجواء تكافؤ الفرص، ترصد الكفاءات لترفع من شأنها، وذلك كله للحفاظ على تلك التنافسية داخل المجتمع، وتستعد لضخ الدماء الجديدة الكفيلة بتجسيد ذلك الوجود في أسمى المراتب والتصنيفات العالمية، وقد أوجدت الأمم لذلك منظومات تنافسية وتداول على القمة فيها بحيث تسمح، فترة بعد فترة، للناجح بالاستمرار وللفاشل أو المترهل، بالنزول من على صهوة الجواد ليصعد الآخرون، والأيام، كما يقال، دول بين نخب تأتي وأخرى تذهب.. ويسير التاريخ بتلك السيرورة إلى الأمام. يكون هذا الأمر، على المستوى النظري، كفيلا، عند تحققه على أرض الواقع، بتجسيد أمنيات الأجيال وإحقاق التغيير المنشود لرفع تحديات التغيير والاستمرار، لأنها الثنائية التي تحكم حركية السلوك البشري على هذه الأرض.
وبتطبيق تلك المقدمة على الجزائر، نصل إلى أن البلاد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، في مقالة
 سابقة للكاتب في "العربي الجديد"، منقسمة إلى ثلاثة أجيال، منذ الثورة التحريرية الكبرى لعام 1954: جيل قاد الثورة، جيل الاستقلال، والجيل الحالي من الشباب، طلبة، أطباء، أساتذة من كل الأطوار ومواطنون بين 20 و35 سنة. قاد جيل الثورة أهمّ المراحل، وأوصل البلاد إلى المرغوب الاستراتيجي الأول للجزائر، وهو الانعتاق من الاستيطان الفرنسي، وإعادة بعث نواة الدولة الوطنية التي أرسى قواعدها الأمير عبد القادر الجزائري، وهو الجيل الذي كانت له الفرصة لبناء جزائر الاستقلال على قواعد راسخة وثابتة. وكان لهم ذلك، إلى حدّ بعيد، حيث إنّ الثوابت التي ينحني أمامها الجزائريون من صنعهم، وتتضمن تركيبة الهوية الوطنية: الإسلام، اللغتين العربية والأمازيغية، العلم الوطني، النشيد، بيان الأول من نوفمبر، إضافة إلى حدود البلاد ومكانة الشّهداء والمجاهدين في الذاكرة الوطنية الجمعية، من دون إغفال الامتداد الطبيعي المغاربي، العربي ــ الإسلامي والأفريقي. ولكن ذلك الجيل فشل في سياسات بناء الدولة الوطنية لما بعد فترة الاستقلال، كما فشل، أيضا، في بناء نموذج اقتصادي يفضي إلى الخروج من التبعية للاقتصاد العالمي، ولدائرة تأثير القوة الاستعمارية السابقة، فرنسا.
أدّى هذا الفشل إلى تراكم في الفشل للسياسة العامة على الأصعدة كافة، إذ لم يصل النظام السياسي إلى تجسيد الاستقلال الفعلي للدولة الوطنية اقتصاديا، سياسيا ومجتمعيا، ليتولد عن ذلك تردّد لدى جيل الاستقلال في معالجة ذلك الفشل بالصدمة، أي إحداث ثورة على نواة الفشل الأولى، على الرغم من محاولة الرئيس الراحل، بومدين، إحداث ذلك من خلال الخروج من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية في عام 1976. ولكن، لسوء الحظ، توفّي بومدين في 1978 قبل أن يكمل مشروع تصحيح الأخطاء التي وقع فيها من قبله بن بله، والتي وقع فيها هو، أيضا، عبر إقراره ثورات ثلاث، زراعية وصناعية وثقافية، من دون توافق مجتمعي، ووفق إرادة لسلطة انقطعت عن رابطتها بالشعب، مباشرةً عقب وصول جيش الحدود إلى العاصمة، غداة استقلال البلاد، في 1962. واستمرّ جيل الثّورة في الحكم، من دون أن يمرّر المشعل في إطار عملية تجديد النخب، الحيوية بيولوجيا واجتماعيا، على الرّغم من التغيرات التي طرأت على المجتمع، من خلال عجلة التنمية التي أحدثتها سياسات الحكومات المتعاقبة، وخصوصا على مستوى متغير التّعليم، الصّحة، تحسين إطار الحياة، ورفع مستوى معيشة الجزائريين، وهي إنجازات لا يمكن إنكارها، ذلك أن الصّورة ليست كلّها قاتمة، فيما يخصّ بعض جوانب السياسة العامة التي أهملت بعض القطاعات، ولكنّها عملت، بفعل توفّر عوائد الرّيع النّفطي، على إيجاد طفرةٍ اجتماعيةٍ في الجوانب أعلاه، والتي تستدعي، حقيقة لا مجازا، ذلك التجديد على مستوى النّخب وبعدم إحداثه أصاب الجسم الاجتماعي الجزائري العطب والارتباك الذي لم يكن من بدّ لإصلاحه، إلا إقرار إصلاحات 1988 الدستورية. ولكن في إطار من الاستقطاب عمّق ذلك العطب، لتنتج عنه عشرية سوداء، أتت على كلّ منجزات السياسة العامة على المستوى الاجتماعي، بصفة خاصّة.
بالنتيجة، تمّت التّضحية بجيل الاستقلال في وقت انتشرت فيه آمال تسليم/ تسلّم المشعل من جيل 
الثّورة لتحلّ على الجزائر "بشائر" عشريتي الارتداد إلى مرحلة الدّولة الرّخوة أو المخملية، من خلال حكم الرّئيس السّابق، والتي عمل من خلالها على الإبقاء على عوامل التّوازن بين مختلف الأجسام التي تتكوّن منها تركيبة منظومة الحكم، مضيفا إليها طبقة جديدة هي طبقة ناهبي المال العامّ ممّن أُطلق عليهم، جُزافا، تسمية رجال الأعمال، وهم، في الحقيقة، جزء من تركيبة الانحطاط والتّحنيط لجيل الثورة وهوامش من المجتمعات، الواقعة في هامش أو داخل النواة الصلبة للنّظام التي أصبحت تدور في فلكه من أبناء، أصهار، متحالفين، منتفعين وناهبين للمال العام، أو من سمّاهم الحراك، الطبقة السياسية والمجتمع المدني، إضافة إلى قائد الأركان بالعصابة والقوى غير الدّستورية.
نهض الحراك في الجزائر، في 22 فبراير/ شباط 2019، لإعادة التّوازن إلى النظام وبعث عملية دوران/ تجديد النخب، من خلال عملية تغيير شاملة، تطاول كل رموز النخبة السياسية السابقة، بمقارباتٍ تتفاوت بين المحاسبة والإبعاد، أو من خلال المناشدة للمشاركة في قيادة عجلة المرحلة الحرجة، إلى حين بروز علامات عودة التوازن عبر انتخابات وإجراءات في إطار منظومة تغيير شاملة، تتولد عنها جزائر جديدة. وبذلك يبدو الحراك، في الفعلين، السياسي والعاطفي، بوعي فاصل بين رموز يجب أن يرحلوا ويغيبوا ورموز تُرفع لهم القبعة ويطلب منهم المرافقة للاستفادة من حكمتهم وتجاربهم في الحوكمة، بقصد تسليم المشعل لجيل الشباب، الجيل الثالث في سلسلة الأجيال التي تضمّها الجزائر، إلى جانب جيلي الثورة والاستقلال.
تأتي الانتخابات الرئاسية المرتقبة في جو سياسي استقطابي بين الحراك، من ناحية، بوعيه الساعي إلى إنجاز عملية تجديد/ دوران النخب، أي إحداث تغيير للنظام، ونظام سياسي أو سلطة، من ناحية ثانية، تريد إنجاز التّغيير، ولكن بمقاربة التجديد داخل النظام، لأنها لا تريد المغامرة في عمليةٍ يمكنها أن تتجاوز سقف المنتظر منها، أي، بمصطلحات التغيير المجتمعي، ثورة تأتي على منظومة الحكم المتوافق عليها داخل دائرة التوازنات التي لا يمكن المساس بها، مهما كان.
القضية المحورية، بالنتيجة، هي رفض الحديث، الحوار أو التّوافق بشأن تلك التّوازنات لأنها مقدّسة، وقد يُحدث المساس بها تقويض البناء السّابق وإحداث بناء جديد وهو المفهوم الذي يريده الحراك بمقاربة تدرّجية وتوافقية مع النظام، وفق أدبيات التحوّل الديمقراطي، وهي، في الحقيقة، أيضا، المرادفة لأدبيات علم الاجتماع السياسي في إطار عملية تجديد/ دوران النّخب بيولوجيا وسياسيا، بل ومجتمعيا، أيضا.