العراق وثورة الوجدان.. أسئلة العروبة والإنسان

العراق وثورة الوجدان.. أسئلة العروبة والإنسان

12 نوفمبر 2019
+ الخط -
لا يمكن بأي حال أن يغفل الباحث العربي أسئلة الثورة الشبابية في العراق، وهي ثورة لم يكن بصددها أي نوع من التصور المستقبلي، ولا الحلم، بأن يرى العرب تصدّع المشروع الطائفي في العراق الذي قسّم وجدان الشباب العربي من أبناء الرافدين، وقد اتحد هؤلاء الشباب في ثورة حقوقٍ إنسانيةٍ ذات نزعة عروبية واضحة، عنوانها النهضة والحرية، تحت لوحة كفاحٍ لا تُقاس إلا بمفاهيم العدالة الاجتماعية التي زحفت جموع الناس لأجلها. 
ولذلك نقرأ هنا هذه الدلالات بناءً على الموج الفكري الذي حملته هذه الثورة الوجدانية، وليس بالضرورة أن تنتهي إلى نجاحٍ سياسي، نعم يحدونا الأمل ونحيطه بالدعاء أن تنجح هذه المسيرات الفدائية المدنية التي قدّمت أرواحها لأجل كرامة الشعب العراقي، ليست كرامةً تمنح لمستبد، ولا صيحات الولاء التي صنعتها الأحزاب القومية العربية، لتسخير الإنسان آلة دفعٍ بشريةٍ لقرارات الزعيم، فعزلت الوطن الحر وقرار شعبه. وإنما كرامة تضيء ليل العتمة الطويلة، لوطن مستقل باحترام قرار فرده أولاً، وتقاسم الثروة للمساواة بين المستضعفين والميسورين، ولأجيالٍ يزاح عنها هذا التحالف اللعين بين الاستبداد وعمامة الدين الموظف المزيف الذي أسقط فطرة الله للإنسان حراً مستقلاً، المستضعفين الذين لعبت باسمهم آيات إيران مع الشريك الغربي، وإنْ وجدت مساحة خصومة بينهما، لكن مشروعها ومشروعه كانا كماشة الفتك بهذه الشعوب العربية التي عانت أيضاً الويلات من أنظمة القمع والاستبداد العربي ولا تزال. والحقيقة أن انبعاث الربيع الثاني للعرب هو في ذاته محطة رصد مهمة، بأن روح 
الثورة الوجدانية التي تتصل بقناعة الفكر والرؤية الجديدة للإنسان العربي أضحت مداراً متجدّداً يُلهم الشارع في عدة أوطان بالحراك لنهضته، في أوج حصار الناس وقمعهم الأمني.
ولذلك، السؤال هنا في العراق وخارجه فكري قبل أن يكون سياسيا، فالأجنحة التي حملت الثورة هي مفاهيم ترسخت لصالح قرار الحرية عن العقل الديني، والأدوات القمعية المُسخّرة عبره، وعبر القوة الجاثمة لنفوذ واشنطن، والنفوذ القومي لإيران، وهو نفوذٌ مزدوج، له قوة باسم الآيات والمرجعيات، إلا القليل من المرجعيات المستقلة، ونفوذ قومي اندمج بقاعدته الاجتماعية الموالية في العراق، حتى لم يعد يفرّق بين هادي العامري وقاسم سليمان، وقس على ذلك، في العراقيين الإيرانيين. ولا يُقصد من هذا المسار في التعاطي لتحليل وجدان الثورة العراقية استدعاء عنصري ضد الشعب الإيراني، على الرغم من الشعوبية المتزايدة التي تصعد اليوم ضد العرب، وتستثمرها هذه المشاريع، وهي تتكرّر في تركيا، على الرغم من أن العمق المذهبي ليس موجوداً، ولكن إشكالية الصراع الداخلي، والصراع الإقليمي فجرت المشاعر المؤسفة بين شعوب الشرق.
وذلك كله لا يمكن أن يُلغي أن ما نراه في العراق هو ثورة ضد المشروع الإيراني، لأنه ببساطة كان ولا يزال مركز التحكّم في بسط الهيمنة على العراقيين، لا هيمنة اقتصاد وسياسة فقط، ولكن هيمنة على الوجدان، نعم الوجدان العربي الشيعي، كان مطوّقاً من داخل الحي، ومن داخل المدينة ومن داخل الدولة، ومن داخل الذات، فكيف يكون من داخل الذات؟

لسنواتٍ، طرحتُ قضية غياب الفكر الناقد، المتحفز والثائر أحياناً في وجه صناعة الخرافة والتقديس، في الزمن الشيعي المعاصر. كانت هناك مساحة محدودة جداً لا تكاد تظهر، وبعضها حاصرها النظام الرسمي العربي، وأمّمها لصالحه، فما عادت تصلح لتشكل أيقونة تنوير فكري.
ومع أن ثورة الوجدان في الطرف السني من المسلمين العرب كان لها أيضاً حظها وتأثيرها، في الشباب العربي، سواءً من اصطف لمواجهة الإسلام ككل تحت الإلحاد الاجتماعي الذي استثمره الغرب، أو من أصر على عزله سياسياً، وبقائه وجدانيا، أو من رأى شراكته التأسيسية المتحدة لصالح قيم النهضة والحرية، فكل تلك الأطياف مارست نقدا منذ سنوات داخل المجتمع السنّي. وفي الحالة العربية الشيعية، لم تكن هذه الظاهرة حاضرةً أبداً، بل إن قضية الطائفية استخدمت في صناعة تفرقة أخرى، فقد تلاعب الاستبداد العربي بالجماعات الدينية السنية والشيعية، لإيجاد صراع طائفي موظف، أو مفاقمته، وخلال السنوات الأخيرة تم شيطنة الإنسان الشيعي، وخصوصا العربي إنسانا ميئوسا منه، واستُغلت اللوحة البشعة للقوى الطائفية المتحدة ضد ثورة سورية في هذا التعميم الظالم.
هناك اليوم ثورة تدحض هذه الشيطنة، وتُسقط حاجزاً ضخماً من الانفصال المتوحش الذي حال بين الشيعة والسنة العرب، وهذا لا يعني أن لا توجد خلافات معتقد وتراث مكتنز بإشكالات كبرى، مع تاريخٍ من التوظيف السياسي للانقسام، ولكن هذه الثورة الوجدانية تعيد التذكير بروابط الوحدة، وهي روابط نهضة مدنية، وإن جمعت مسلمين عربا، فهي تجمهم فيما بينهم ومع غير المسلمين من كل الطوائف، والقوميات التي تقيم بينهم، تحت ظلال المفهوم المدني 
لدولة العدالة الاجتماعية.
هذا العقد الاجتماعي الدستوري هو الحل اليوم الذي يجمع كل أطياف البيت العربي، ومصداقية تقييم الموقف عبره هو مدى التزام المثقف والمناضل والجماعة البشرية عبره. أما فكرة الإسلام ومضامينه القيمية، وتميز فلسفته، فتُعرض وتطور قواعده وقوانينه على هذه الأرضية، ويتنافس الناس حول تعزيز الحقوق والعدالة الاجتماعية للشعوب. ولا تقوم هذه الوحدة على مقاييس نزعات وجودية، أو صراعية اجتماعية في الغرب، فللشرق مدلولاته وثقافته، حين تؤطّر في برنامج دستوري نافذ، ونظام سياسي يحمي حقوق الفرد وحريته، وينظم جدله المعرفي، فالجميع سيحظون بدولة النهضة التي يحلم بها الجميع.
لا يزال هذا الحلم في بدايته، وخصوصا في مواجهة مداميك صلبة من الرؤى الرافضة والمتشدّدة، لكنها اليوم تحت حركة الوجدان الثائر، ثم قراءة الفكر الناضج، تُقرّب بين العرب، وتعيد صياغة ثقافة تحالفية، هي الأساس الأول لنهضة الشعوب، للوصول إلى دولة الحقوق والكرامة والعدالة الاجتماعية.