زخم "ربيع لبنان" يعمق مأزق السلطة

زخم "ربيع لبنان" يعمق مأزق السلطة

11 نوفمبر 2019
+ الخط -
هل ستصل الثورة في لبنان إلى منازل أهل السلطة؟ سؤال بدأ يقلق سياسيين ومسؤولين ونافذين في مواقع وزارية وحكومية أو تعاقبوا عليها. طوت الانتفاضة الشعبية الشبابية أسبوعها الثالث، وتستمر بزخم متجدّد ومتشعب، بعد أن حققت أول أهدافها بإسقاط الحكومة. وبدل أن تخمد وتيرتها في ساحات المدن اللبنانية وشوارعها، جرّاء المحاولات التي تبذلها السلطة لاحتوائها وإجهاضها، إذا بها تتجه نحو العصيان المدني السلمي، وتستنبط أساليب جديدة ومبتكرة في الاحتجاج، عبر شل عمل المؤسسات الرسمية والمرافق العامة. قابله تحرّك طلاب المدارس والجامعات الذين أعلنوا تعليق الدروس وانضمامهم إلى "الثورة"، وراحوا ينظّمون سلاسل بشرية، ويجوبون الشوارع في معظم المحافظات والمناطق اللبنانية. ثم جاءت خطوة الاعتراض والتجمع والاعتصام والقرع على الطناجر أمام مراكز مهمة، كوزارة المالية والمصرف المركزي الذي يحمّله أكثر من طرف مسؤولية الأزمة المالية، ونقص الدولار في الأسواق القائمة على اقتصاد مدولر. وكذلك الاعتصام أمام وزارة الطاقة عنوان أزمة الكهرباء المزمنة التي توازي المبالغ التي صُرفت عليها أو خصصت لها ثلث مديونية الدولة التي قاربت المائة مليار دولار، وغيرها من مكاتب ومنازل المسؤولين أو السياسيين المتهمين بالفساد ونهب المال العام والتشهير بهم. أذهلت ساحات في عاصمة الشمال، طرابلس، مثلا، الجميع بزخمها المستمر والمتواصل منذ اليوم الأول، في اعتصام نحو خمسين ألف شخص كل ليلة يفرحون ويغنّون ويهتفون للثورة في ساحة المدينة الرئيسية.
إنها انتفاضة عارمة لجيل جديد، هو في قطيعة مع الماضي، ومع الأجيال التي سبقته. لم يعش 
الحرب ولم يعرفها. سمع عنها وعن أضرارها وعن دمارها الجسدي والنفسي، وعن أمرائها الذين ما زال بعضهم يجلس في السلطة. هو ثائر اليوم على سلطةٍ لم تفتح له ولو ثغرة بسيطة نحو المستقبل. ويشكل اليوم بانتفاضته تحديا غير مسبوق، ويواجه، بإرادته وتصميمه وقناعاته الحاسمة، أسوأ سلطةٍ عرفها لبنان في تاريخه، وأكثرها فسادا ووقاحة وفجورا وارتهانا للخارج. ومع صعوبة هذا التحدّي، يحافظ الحراك المدني على وحدته وتماسكه، على الرغم من عفويته وامتداده على مساحة الوطن، وعلى الرغم من عدم اعتماده أطرا تنظيمية، وعدم تمتعه بقيادة مركزية موحدة. لذلك حاولت السلطة، بكل الوسائل، تفكيكه وزرع القسمة والفتنة في صفوفه، لكنها لم تنجح. وكان البادئ أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، الذي خاطب المتظاهرين ثلاث مرات في أسبوعين، مستعملا أساليب الترغيب والترهيب، من القول إنه يدعم الحراك ويتبنّى مطالبهم المحقّة، إلى دفع زعران "القمصان السود" إلى ساحة الاعتصام في بيروت، ليعتدوا على الحشود المسالمة، ويكسروا المنصّات ويحرقوا الخيم. همّه الأساسي دفع الشباب إلى أن يختاروا من يمثلهم كي يحاورهم ويتفاهم معهم. ولكنه لم يقنعهم ولم يخِفهم. وكان رئيس الجمهورية، ميشال عون، قد سبق نصرالله، معلنا استعداده لمحاورة المتظاهرين من دون أن يلقى نداؤه تجاوبا. وقد شكل عدم وجود قيادة موحدة ومعلنة ورفض "الثوار" الحوار عامل قوةٍ على الأرجح للحراك، وكذلك القدرة في الحفاظ على سلميته، وإبقاء الأحزاب بعيدة عنه. عندها قرّر نصرالله وعون تحدّي الشارع بتنظيم تظاهرات مضادّة، اقتصرت على أن يحشد الأول جمهوره في ضاحية بيروت الجنوبية، والثاني في محيط القصر الجمهوري. وجاء رد الحراك على الفور مذهلا باحتشاد مئات الآلاف في وسط العاصمة، وامتلاء ساحات المدن الرئيسية من الجنوب إلى الشمال وفي جبل لبنان.
وشكلت استقالة رئيس الحكومة، سعد الحريري، في اليوم الثاني عشر للانتفاضة، ضربة قاسية 
لحزب الله الذي كان أمينه العام نصرالله قد أعلن أنه ممنوع أن تستقيل الحكومة، وأغرقت أركان السلطة في مأزق حقيقي. والأهم أنها أدت إلى فشل التسوية الرئاسية التي هندسها حزب الله التي حملت عون في خريف 2016 إلى رئاسة الجمهورية، بعد فراغ رئاسي دام سنتين ونصف السنة، وأعادت الحريري إلى رئاسة الحكومة. اشتعال شرارة الانتفاضة كان بمثابة اللغم الذي انفجر بين أيديهم، وأدّى إلى "انفخات الدف وتفرّق العشاق"، وبات أطراف السلطة أمام خطر يتهدّدهم جميعا. شعار "كلّن يعني كلّن" يدعو إلى رحيل الطبقة السياسية بأكملها! هو الشعار الأعنف والأصدق تعبيرا عن نقمة الشارع، يصرُخه المعتصمون بأعلى أصواتهم في وجوه السياسيين، ويرفعه المتظاهرون في كل الساحات. شعار لا يفرّق بين سياسي وآخر، وحزب وآخر من أحزاب السلطة. وهذا ما دفع كل طرفٍ إلى إعادة النظر في حساباته وتموضعه، وإنما من دون أن يسمح له عمى السلطة والتمسّك بالكرسي أن يتلقف عمق ما يحصل وأبعاده. وقد حاول الحريري باستقالته استعطاف الشارع، سعيا إلى استعادة بعض من جمهوره، وبالتالي لا يمكنه العودة على رأس حكومةٍ تشبه سابقتها، فهو يلعب ورقة حكومة تكنوقراط حيادية غير حزبية كما يطالب الحراك. وهذا يعني، بشكل أساسي، خروج رئيس التيار العوني، جبران باسيل، من الحكومة، وبالتالي خروج حزب الله. ناهيك، بطبيعة الحال، عن الضغوط الأميركية والدولية التي تريد إخراج حزب الله من سلطة القرار، فيما يصرّ نصرالله وباسيل على إمساكهم بناصية القرار وبقائهم في حكومةٍ سياسيةٍ يمكن تطعيمها ببعض ممثلي الحراك. ولكن المفارقة أنهم، في المقابل، يصرّون على ضرورة أن يترأسها الحريري نفسه، لأنه يشكل بالنسبة لهم ضمانة لعلاقات لبنان مع الدول العربية، 
ومع الدول الغربية المانحة والممولة مؤتمر سيدر، وللمجتمع الدولي. حكومة يحتمي بها حزب الله وبالحريري من العقوبات الأميركية، ومن الشحّ المالي، ومن العزلة الداخلية، فيما سيؤدي الإصرار، في المقابل، على حكومةٍ شبيهةٍ بسابقاتها، إلى رفض الشارع لها والاستمرار في الحراك الذي سيكتشف، في النهاية، أن من يؤلف فعليا الحكومة هو حزب الله، ما سيدفعه عاجلا أم آجلا إلى اتخاذ موقف من سلاحه غير الشرعي، فهو من عطّل تشكيل حكومة الحريري الأولى في عهد عون ثمانية أشهر، لكي يفرض عليه تمثيل وزير سنّي من أخصامه.
لذلك الكرة الآن هي في ملعب الحريري نفسه، وعليه أن يقرّر ما إذا كان مستعدًا لتشكيل حكومة سياسية، تضم صهر الرئيس ورئيس التيار العوني وممثلين لحزب الله، أم سيعزف عن التشكيل. ولهذه الأسباب، يمارس رئيس الجمهورية عملية ابتزاز للحريري، بتمنّعه حتى اليوم عن إجراء الاستشارات النيابية الملزمة بحسب الدستور، على الرغم من مرور نحو أسبوعين على الاستقالة. ما يقوم به عون، ومن ورائه نصرالله، هو محاولة فرض مسبقا تشكيل الحكومة على الحريري قبل تكليفه. كما أن "عدة الابتزاز والضغط" تتضمن استفاقةً مفاجئةً لحملة محاربة الفساد، عبر دفع المدّعي العام المالي إلى تحريك ملفات، واستدعائه شخصياتٍ تحوم حولها شبهات فساد، ولكن كلها تنتمي إلى تيار المستقبل الذي يرأسه الحريري، أو تدور في فلكه أو مقرّبة منه.
حتى الآن، يبدو أن الحريري غير متحمّس للعودة إلى السراي، ولديه أكثر من ورقة يلعبها، فهل يفعل؟ أم أن إغراءات السلطة ستدفعه إلى الوقوع مجدّدا في شباك حزب الله وباسيل الذي لم يُشتم ويُهان سياسي في تاريخ لبنان بقدر ما شتم هو؟ كما لا يبدو أن الحراك المدني العارم مستعد للقبول بأنصاف الحلول التي تحاول السلطة تسويقها. لم يتخلّ صاحب السلطة يوما عنها بملء إرادته، فكيف إذا لم يكن هو صاحب القرار وإنما مجرد أداة.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.