ديكتاتورية السيسي الهشّة

ديكتاتورية السيسي الهشّة

11 نوفمبر 2019
+ الخط -
يحاول الجنرال عبد الفتاح السيسي بناء ديكتاتورية فردية على غرار ديكتاتوريات القرن العشرين. وهو يبدو على يقينٍ بأن هذه الديكتاتورية سوف تخلّد اسمه في التاريخ واحدا من "أعظم القادة" الذين حكموا مصر خلال العصر الحديث، أو هكذا يعتقد. ولكن يغيب عنه أن هذا النمط من الديكتاتوريات المطلقة لم يعد لها مستقبل، وأن سقوطها أصبح أسرع من سقوط التي سادت خلال القرن الماضي، سواء في إسبانيا تحت حكم الجنرال فرانكو، أو في رومانيا تحت حكم نيكولاي شاوشيسكو، أو في العراق تحت حكم صدام حسين، أو في ليبيا تحت حكم معمر القذافي. ولا يتعلق الأمر فقط باختلاف الظروف البنيوية التاريخية التي سمحت بإدامة تلك الديكتاتوريات الفردية، خصوصا خلال مرحلة الحرب الباردة، ولا بثورة المعلومات والتكنولوجيا التي باتت إحدى الوسائل الرئيسية في تشكيل الوعي الجمعي للجماهير تجاه السلطة، ولكن أيضا بافتقاد هذه الديكتاتورية الناشئة أهم شرطين للبقاء: القدرة على شراء ولاء الداعمين والمؤيدين، وذلك نتيجة لضعف الموارد والحوافز المالية، ورفض مشاركة السلطة واقتسامها مع آخرين، سواء أحزاب أو جماعات تابعة، فالأنظمة الديكتاتورية الفردية، خلال القرن الماضي، تمتعت بوفرة مالية وموارد مادية واقتصادية كبيرة، مكّنتها من شراء قطاعات واسعة من الجماهير، بشكلٍ ضمن لها البقاء في السلطة فترة طويلة. كما أنها كانت من الذكاء بحيث تركت المجال مفتوحاً لنوعٍ من المشاركة السياسية، ولو المقيّدة أو المحدودة التي نجحت في تدجين وعي الشعوب. 
ولكن ما يفعله السيسي في مصر أنه يريد بناء ديكتاتورية فردية "مجانية"، لا تكلفه موارد كثيرة، بل على العكس، يبدو وكأنه يتربح منها هو وعائلته وحاشيته. صحيح أن الرجل أطلق يد الجيش، ليس في المجال الاقتصادي فحسب، وإنما في إدارة كل شؤون الدولة (انطلاقاً من احتقاره المدنيين وعدم ثقته فيهم)، ولكن هذا لا يكفي لضمان ولائه على المدى الطويل، خصوصا في ظل ما يثار بشان توريطه في ملفات الفساد والنهب التي أصبحت مثار حديث 
الشارع المصري. فقد كان الرئيس السابق حسني مبارك أكثر ذكاءً في تلبية مطالب جنرالات الجيش، من دون تعريضهم مباشرة للرأي العام، على غرار ما يفعل الجنرال السيسي. ومن جهة أخرى، لا يثق السيسي في إمكانية وجود شريك له، ولو شكلياً، في السلطة. ليس فقط لتصوراته عن المدنيين، والتي تحتقرهم ولا تثق بهم، ولكن أيضا لمخاوفه من أن تكون هذه الشراكة بداية نهايته. ووفقاً لهذا التصور، تصبح جميع المؤسسات (جيش وشرطة وقضاء إعلام وقطاع خاص) مجرد أدوات طائعة ومنفذة لإرادته، ولا تجرؤ أي منها على شراكته، ناهيك عن منافسته أو تحدّيه. وقد كان قادراً على أن يعطي مسحة شكلية لنظامه، من خلال فتح المجال العام أمام المعارضة المستأنسة، أو السماح بقدر من حرية التعبير، على الأقل، للقوى والشخصيات المؤيدة التي وقفت معه عشية انقلابه على السلطة في يوليو/ تموز 2013، ولكنه يعرف أن مبارك سقط عندما سمح بهذا القدر المحدود من الحرية، ولا يريد أن يُلدغ من الجحر الذي لُدغ منه مبارك.
بيد أن الطريقة التي يدير بها السيسي ديكتاتوريته الناشئة سوف تنهار على رأسه، بطريقة أسوأ بكثير مما حدث مع مبارك الذي بنى سلطويته على أساس حزبيٍّ تعددي. وهذا ليس ضرباً من الخيال، أو تفكيراً بالتمنيّ، فالرجل لا يمتلك سوى القوة العارية التي يرهب بها معارضيه، ويخوّف بها مؤيديه. كما أنه فقد جزءاً كبيراً من رصيده الشعبي الذي حصل عليه عشية تنفيذ انقلابه علي الرئيس الراحل محمد مرسي، وذلك نتيجة احتكاره السلطة واستفراده بها، وفشله في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تقصم الآن ظهر المواطن العادي. لذا ليس غريباً ارتفاع مستوى الرفض والسخط لحكمه، وحالة الغموض التي يبدو عليها مستقبل نظامه. بل وأن يهتز هذا النظام من خروج شخصٍ عادي، مثل المقاول والفنان محمد علي، عن النص وفضحه وتعريته.
كما أن مصير الديكتاتوريات الفردية المتماسكة، ناهيك عن المتخبطة كما هي في حالة السيسي، ليس فقط السقوط المروّع المحتوم آجلاً أو عاجلاً، وإنما أيضا في طريقة السقوط ومآلاته. وما لم يكن الموت الطبيعي هو المخرج للديكتاتور الفرد، كما كانت مع فرانكو أو مع الجنرال أوغستين بينوشيه، ديكتاتور تشيلي، فإن مصيرها يتراوح بين القتل أو الإعدام أو السجن أو المنفى. وجميعها مآلاتٌ يبدو أن السيسي على وعي بها، لذا فهو يتشبث بالسلطة بشكلٍ لم يحدث من قبل. كما أنه لا يأمن على نفسه ليس فقط من معارضيه، على ضعفهم وقلتهم، وإنما أيضا من حاشيته، وممن يعتقد أنهم أقرب الناس إليه. وليحلف السيسي كما يشاء بأنه لا يريد السلطة، وليكذب كما يشاء بأنه كان "زاهد فيها"، فهذا كله لن يحول دون سقوطه آجلاً أو عاجلاً.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".