غربة متجدّدة للمتنبي

غربة متجدّدة للمتنبي

07 أكتوبر 2019
+ الخط -
.. وهو الذي ملأ الدّنيا وشغل الناس، ما كان المتنبي ليتأخّر في أن يدرك، لو قُدّر له أن يعيش، ولو فترة وجيزة، في أحد بلدان الجزيرة العربية، مهدِ لغة الضّاد ومهبط الوحي، أنها أكثرُ البلدان العربية التي صارت العربية تعيش فيها غربةً حقيقيةً حدّ الاستنكار.. ولنا أن نتخيّل حجم خذلان هذا الشاعر الذي طوّع المجاز، وروّض المعاني، وجعلَها في خدمة قريحته الشعرية المتّقدة، في تعبيراتٍ استعاريةٍ راقيةٍ تصبّ، بكل روافدها ومنابعها، في بحر لغة الضاد، المحيط، وهو يعاين هذه الصورة المشوّهة للغة العربية، وهي تتعرّض، في مهدها (يا حسرة) لأبشع أنواع الإهانات والتحقير والتهميش. أكيدٌ أننا سنشفق لحاله، لو قُدّر له أن يمشي في أسواق دول الخليج العربي وشوارعها، ويقرأ اللافتات التجارية، المكتوبة بلغة أجنبية مستفزّة ومستفردة بالمشهد. لكَم كان صديقنا الأديب أحمد الفلاحي يتضايق حين يرى أسماء الوجبات وأسعارها في قوائم العرض في المطاعم الرّاقية مكتوبةً بلغة واحدة وحيدة، غريبة لا شريكة لها، وهي الإنكليزية في بلدان تعدّ فيها العربيةُ اللغةَ الأم. لم يكن شعورُه نابعاً من جهل بالإنكليزية، وإنما من هذا التعالي من أرباب هذه المطاعم، ليس على العربية فقط، بل على الزبائن أيضا. ويسري هذا الوضع على مَرافقَ وفضاءات وخدمات كثيرة، منها العروض السينمائية وأسعار السلع ومسمّياتها في كبريات الشركات والمحال التي لا تحضر العربية فيها، ولو لغةً ثانية، وهذا صار أقصى الأمنيات، وإنما مقصيةً ومنبوذةً إلى حدّ أن استعمالها صار يبعث على الخجل.
وبلغ إقصاء العربية في بلدانها أنك لو دخلتَ، مثلا، مقهى راقياً لاحتساء قهوة سوداء لا يخالطها بياض، فلن يكون بمقدورك أن تطلبها من النادل بلغتك الأم، وإنما يجب أن تحدّثه بالإنكليزية وحدها. في وقتنا هذا، لن يحتاج المتنبي زيارة بلاد فارس لكي يقول إن العربيَ فيها غريبُ الوجه واليد واللسان. ما عليه إلا أن يرتاد مقهى عصريا في مسقط، مثلا، ويسأل النادل عن قائمة المعروضات، ولن يتلقى ردّا.. هكذا، إذن، سيعيش المتنبي، لو قدّر له هذا السفر في الزمن نحو عصرنا هذا، شبهَ أخرس طوال فترة إقامته، ما دام لا يعرف مفردةً واحدة من الإنكليزية. ماذا سيضرّ البلدية التي تدقّق في ألوان جدران البيوت، ولا تتهاون مع أي لونٍ مخالفٍ لقائمة الألوان الموثقة، لو طلبت كذلك من أصحاب المحال التجارية والمطاعم والأسواق أن تكون في قوائم العرض العربية جنبا إلى جنب مع الإنكليزية؟ وطبعاً، لن نتحدّث عن الأخطاء التي تملأ لوحات الشوارع، وهي ليست بالضرورة أخطاء إملائية، على كثرتها، وإنما تركيبية وجمالية وسياقية مثيرة ومستفزّة، إذ يمكنك أن تقرأ، مثلا، لافتةً كتب عليها "مقهى الإمبراطور"، قبل أن تكتشف أنه ليس أكثر من جحر أو خرم في جدار يلوذ به العمال الآسيويون. كأنما اسم المطعم لافتة دعائية لإمبراطور الفقر والخوف والبؤس. وفي هذا السياق، صادفت مغسلةً تحمل اسم "مغسلة الأفكار" وكأنما ثمّة في داخل المحل شخص مختصّ في غسل الأفكار.. وكأني بهذا الذي يكتب هذه اللافتات ممثل هزليّ، ولكنه ساذج أيضا، ما لم أقل إنه سطحيّ وبليد. التشبّث المضحك المصطنع لأهل البلد بالديكور، من خلال محافظتهم على الملابس التقليدية، أي بالقشور من دون الألباب، والتغنّي بالتاريخ وحصونه ومنجزات السّلَف تقابله مفارقة صارخة، هي إهمالهم التام ما هو أهمّ وأعمق، بتهميش اللغة العربية، حدّ الإقصاء، وإعلاء شأن لغةٍ وافدةٍ أجنبيةٍ محلها، بل واستعمالها كلما غادروا بيوتهم نحو المرافق العمومية، كالمقاهي والمطاعم والأسواق والمسارح وغيرها، فتتقهقر اللغة العربية كلما ارتقت حياةُ متكلميها، وتصير منبوذة أكثر فأكثر، إلى درجة أن استعمالها لدى بعضهم يبعث على الخجل والإحراج، فكل حكومةٍ لا تألو جهدا في التعامل مع لغتها الأولى، تحمل هوية شعبها وثقافته نحو التلاشي والاستلاب، لأن اللغة ليست وسيلة تواصلٍ فقط، إنما كذلك وطن، وغربتها هي غربة وضياع في الوطن. سيشعر المتنبي إذن بالضياع في وطنه، وسيعود أدراجه، متحسّرا، من حيث أتى.
اعذرنا، يا شاعرنا العظيم، لا مكان لك بيننا، وأنت القائل إن كلماتك أسمعت منْ بهِ صَمَمُ.. صممُنا مستفحلٌ إلى درجة أن أدبك ولغتَك نفسيهما لا يقدران على إنطاقه. عذرا، لا مكان لك بيننا ولا.. مكانة.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي