"أولاد الغيتو" ومكر الرواية الجميل

"أولاد الغيتو" ومكر الرواية الجميل

07 أكتوبر 2019
+ الخط -
يواصل الروائي اللبناني، إلياس خوري، حفره عميقا في دواخل النفس البشرية بكل هشاشتها، كاشفا جمالياتها ونقاط ضعفها وهواجسها وأشواقها وأحزانها وضجرها وغضبها وأفراحها القليلة العابرة، وتوقها إلى الحرية والعدالة، وإدانتها الظلم، وارتباكها المضحك أمام الحب في بدايته، وفجيعتها المدوية حين يتركها الحب على نحو مفاجئ، لأسباب غامضة غير قابلة للتفسير، وأسئلتها الوجودية غير المجدية عن الحياة والموت والاختبارات التي تتعرّض لها في حياة قائمة على الألم... يفعل إلياس ذلك كله، بحكمة فيلسوف متأمل، وبراعة محلل نفسي يمتلك أدواته، في ثلاثيته "أولاد الغيتو" التي صدر منها عن دار الآداب جزآن، "اسمي آدم" و"نجمة البحر". وقد وعد جمهوره في عمّان أخيرا، في أثناء أمسية في مكتبة الأرشيف، حضرها جمع حاشد من الكتاب والمثفين وجمهور غفير من القراء، بقرب صدور الجزء الثالث والأخير. 
ومثل عهده دائما، وفي جل أعماله الروائية، تحتل فلسطين المساحة الكبرى من فضاءاته الروائية محكمة البناء، معيدا، في كل مرة، ومن زاوية مختلفة، سرد مأساة ضياع الوطن والتباس الهوية وواقع الاحتلال والقمع ونهب البلاد وتشريد العباد. ينبش خوري في "أولاد الغيتو" تفاصيل احتلال اللد، وما ترتب عليه من هجراتٍ قسريةٍ، حاول الفلسطيني في أثنائها النجاة بحياة أولاده من جور احتلال صهيوني غاشم، يعتبر مضي الفلسطيني في حياته تهديدا لحلمه غير المقدّس. ويعرض إلياس ما تعرّض له من تبقوا من أبناء اللد من أهوال غير قابلة للنسيان، حين يطوّق العدو الحي العربي بأسلاك شائكة، في تكرار لمشاهد الغيتو اليهودي في أوروبا، مفلسفا فكرة الضحية التي تقتصّ من جلادها من خلال اضطهاد ضحية أخرى. أسلاك شائكة أقيمت على عجل، تحظر على أبناء اللد الرافضين الرحيل، مفضلين الموت في الأرض على خيار الرحيل، وتفرض عليهم حظر التجول في مكانهم الأصيل، وتجبرهم في مشاهد صادمة على لملمة أشلاء الشهداء في الطرقات، وتحيلهم من ملاك للأرض إلى متسللين، سارقين خيراتها التي غرسوها بأيديهم تحت طائلة القتل والحبس والطرد.
تفاصيل كثيرة ضمّها هذا العمل الروائي الفذ، المستند الى الوثيقة في جانبه السردي للوقائع والأحداث التاريخية، المنفلت الحرّ في جانبه القائم على الخيال، فرسم إلياس خوري الشخصيات على هواه، واختصر الحكاية كلها في آدم، أحد أولاد الغيتو الذي تحتمل ولادته بعدا أسطوريا، حيث عثر عليه في أثناء التهجير رضيعا ملقىً على صدر امرأة ميتة جفّ ثديها. أصبح آدم، بحكايته الملتبسة، الناطق الرسمي باسم الوجع والقهر والضياع والتشظي الذي عبّرت عنه هذه الشخصية المركّبة الغامضة التي تجعلك حائرا أمامها غير قادر على التعاطف معها بالمطلق، على الرغم من كل ما مر بها، حمّله إلياس عبء التأملات العميقة، ذات البعد الفلسفي في الحياة والحب والموت والقدر الذي يرسم خطانا، ويحيلنا أشخاصا فاقدي السيطرة على مسار حياتهم الذي يذهب بعيدا في اللامعقول، وصولا إلى الاستسلام الذي يفرضه الواقع المعاش.
وقبل أن توشك على إدانة روحه التي تبدو انهزامية، بل ومتواطئة أحيانا، يقودك الروائي إلى جانب مختلف، نبيل ومنحاز لقيم المقاومة والرفض الشجاع لمظاهر الظلم والحنين المؤلم للأم والأرض والبيت والماضي المنهوب، ما يؤكد الحرفية التي ميزت منجز إلياس خوري الروائي، حيث الاستدراج الذكي المحنّك الذي لا يخلو من مكر إلى استدراج القارئ وتوريطه كليا في فضاء النص الحيوي المتحرّك الرشيق الشائق، متعدّد المستويات متنوع الأصوات، بلغةٍ بسيطةٍ حاذقةٍ خالية من الفذلكة والاستعراض اللفظي والاعتناء المبالغ به، الكفيل بتحنيط النص، والإجهاز على روحه، ومن خلال صوت آدم الخافت الرزين غير الانفعالي، على الرغم من ثورة الغضب الكامنة، حين تتدفق روحه المرهفة الحزينة المخذولة في تداعٍ مرير، وهو الفلسطيني/ الإسرائيلي، الغائب/ الحاضر، وفقا للتصنيف الصهيوني الذي انتهى به الأمر بائعا للفلافل في نيويورك.
تنقّل بنا الروائي في الأماكن والأزمنة. ونبش، بدون أدنى رحمة، عوالم عنيفة قاسية، لا يملك القارئ أمامها سوى الانخراط بكليته في أدق التفاصيل التي سردها بأناة الحرفي المتمكّن من صنعته... تحية كبيرة إلى إلياس خوري، على عمل فذّ، يستحق الالتفات، وبانتظار الجزء الثالث كي تكتمل دائرة الدهشة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.