ظواهر مصرية مدهشة

ظواهر مصرية مدهشة

06 أكتوبر 2019

فؤاد المهدس وسيد الملاح ولبلبة واسماعيل ياسين وسمير غانم

+ الخط -
ربما كانت مصرُ الدولةَ العربية الوحيدة التي عَرفت مجموعة من الظواهر الإبداعية، وكرّستها. كان ثمّة فنانون يهوون تقليد الشخصيات المعروفة، سرعان ما تلقفتهم المحطاتُ التلفزيونية المصرية، وأفردتْ لهم مساحاتٍ زمنيةً كافية، ليقلدوا الفنانين المشاهير بطريقة مضحكة، وقد استمرّوا يمارسون هذا العمل المرح، ويطوّرونه، حتى أصبحوا "ظاهرة". على سبيل المثال، دخلت الفتاةُ الأرمينية نينوتشكا كوبليان (لِبْلِبَة) عالمَ التقليد وهي طفلة صغيرة، وعُرفت بتقليد فريد الأطرش ومحمد عبد المطلب ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وفهد بلان وشريفة فاضل والممثلة ماجدة. وانطلقت من عالم التقليد الهزلي لتكون ممثلةً سينمائيةً اشتركت في أفلام كثيرة بأدوار بعيدة عن مهارتها الأصلية. واتسعت ظاهرة التقليد، وظهر مقلّدون بارعون، منهم عصام وحيد، والفنان النجم أحمد زكي الذي غنّى أغنية عبد الحليم حافظ "موعود"، مفترضاً أن كلاً من محمد رشدي وشفيق جلال ومحمود المليجي وعمر الشريف يغنونها، كُلٌّ على طريقته.. 
اتحدتْ ظاهرةُ "تقليد المشاهير" مع ظاهرة المونولوجيست الذي يؤلف الأغاني الشعبية البسيطة الممتلئة بالفكاهة ويلحّنها، ويقدمها للجمهور على المسرح، أو في استوديو تلفزيوني، ويتوقف بين أغنيتين، ليلقي نكتة شائعة بطريقة ذكية. عُرِفَ من هؤلاء أحمد غانم، وفيصل خورشيد، وكذلك المنتصر بالله الذي كان يلقي النكتة بمرافقة آلة العود كما لو أنها أغنية، وفي بعض المسرحيات كان كل من نجاح الموجي وسيد زيان يقدّمان فقرات من هذا القبيل.
ولئن كان لكل ظاهرة حَدٌّ أعلى، أو سقف، فإن سيد الملاح هو سقف ظاهرة التقليد الهزلي بدون منافس. وأزعم أن سر نجاحه، واكتسابه شعبية واسعة في مصر وخارجها، يأتي من أنه يمتلك صوتاً قوياً عذباً، ومقدرةً استثنائية على الأداء والتطريب. ولديه، كذلك، حس هزلي، يصل إلى مستوى "الكاريكاتير"، فمن فصوله اللذيذة أنه أراد، مرّة، أن يقلد المطرب الكبير محمد عبد المطلب "أبا النور"، فدخل إلى المسرح يحمله رجلان، ووضعاه على الكرسي، وقرّبا الميكروفون من فمه، وقبل أن يغني، والموسيقى تعزف لحن المقدمة، كان ينادي على مساعده، والمساعد يرد عليه: أيوه يا أفندم، ولكنه يكرّر النداء، ما يعني أنه فاقد السمع أيضاً.. وفي المحصلة، حينما غنّى كان صوته يضاهي صوت عبد المطلب في القوة والعذوبة.
ومن الظواهر المصرية التي يشار إليها بالبنان ازدهارُ المسرح التجاري، وهو مسرحٌ يختص بالجمهور غير المثقف الذي يبحث عن التسلية والضحك، ولا يكترث لغير ذلك من اعتبارات. وكان النجم رقم واحد لهذا المسرح فؤاد المهندس، ومعه شويكار بالطبع، ومجموعة كبيرة من الممثلين الإضافيين في كل مسرحية، وكان عرض المسرحية الواحدة لفرقة فؤاد المهندس يستمر زمناً يحسب بالشهور، وأحياناً بالسنوات.
تقوم الغالبية العظمى من الأعمال المسرحية التجارية على "الكوميديا الفارْسْ"، وتعني المسخرة، أو التهريج، أو لِنَقُلْ الإضحاك بالقوة. ولأجل هذا، يستنفر المؤلف والمخرج والممثلون في البحث عن أكثر الحركات والجمل والألفاظ مقدرةً على الإضحاك. ولست أدري ما إذا كانوا يزرعون أناساً من طرفهم بين الجمهور ليحرّكوا جو الضحك والتصفيق عند حدوث كل قفلة. وكان سمير غانم يقدّم مسرحياته "الفَارْسِيّة" برفقة الفنان المتميز جورج سيدهم، وأحياناً يلجأ إلى استئجار أشخاص من خارج عالم الفن، لديهم تشوّهات جسدية معينة، كالأقزام، ليثير الضحك، ليس منهم، بل عليهم.
ومن الظواهر المدهشة التي اخترقت عالم السينما المصرية شخصية إسماعيل ياسين الذي أصبح نجم شباك التذاكر في سني 1952 و1953 و1954، وأصبح منتجو الأفلام التجارية يأتون به إلى أفلامهم، حتى ولو لم يكن ثمّة ضرورة فنية له، وعلى كاتب السيناريو أن يخترع له دوراً في الفيلم، حتى ولو كان تراجيدياً..
هذه الظواهر، سواء أكنا متفقين معها أو مختلفين، تدلّ على عظمة شعب مصر، وكونه يستحق نظاماً سياسياً ديمقراطياً لائقاً.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...