العنصرية "المحبوبة"

العنصرية "المحبوبة"

06 أكتوبر 2019
+ الخط -
في لقاءٍ جمعني برجل أعمال "متعلم"، وخريج كبريات المدارس العليا الفرنسية، تطرّقنا، في حديث المجاملة الممل، إلى إفلاس ناقل جوي فرنسي خاص، ورمي مئات الموظفين لديه إلى سوق البطالة الذي لا يرحم. وفي أثناء تحليل أسباب إفلاس هذه الشركة، أشار الاقتصادي الكبير إلى أن جميع ركاب هذه الشركة، أو أغلبهم، من العرب، فالجزائر تشكل خطاً رئيسياً لديها كما لبنان. فاستغربت من هذا المزج الغريب، ما دعاه إلى الاستفاضة بوجل، لأنه عارف بأصولي، فقال مميّزا محدّثه، وهو أنا، عن البقية قائلا: "أنت تعرف، يا صديقي، أن جُلّهم لا يدفع ثمن تذكرته"... مضيفاً، "وهذا ما نشاهده يومياً في المترو". واعتذر عن التعميم، مشيراً إلى استثنائي الحتمي من الجوقة المخالفة لأنني "مختلف" (...). 
الاقتصادي القادم من مدرسة متخصصة رفيعة، والشاغل سابقا مراكز مهمة في المصارف وفي الخدمة العامة، يعتقد، لعنصريته، أنه يمكن ركوب الطائرة من دون دفع التذكرة. إنه الغباء، ويمكن أيضا أن يكون الاستغباء، فالعنصرية تعمي معتنقيها إلى درجة أنها تبعدهم عن المنطق. وقد تعاملت مع هذا الطرح بما يستحقه من طيب الاستماع وابتسامة الاستهزاء والانسحاب التكتيكي الذي يُعفي من السكتة القلبية أو الجلطة الدماغية.
في المشهد العام الفرنسي، يكثر الحديث عن إيريك زيمور، وهو صحفي وليس بالصحفي، وكاتب وليس بالكاتب، إنما يصحّ القول إنه "غاوي تحريض" بالعامية المبسّطة، فكل ما يطرحه، بالاستناد إلى ثقافة وهمية لا تُبهر إلا الجاهلين، قائم على الترهيب من الإسلام ومن المسلمين. وهو يسوّق نظرية المثقف الفاشل إعلامياً، رونو كامو، صاحب النظرية القاتلة التي ألهمت مجرمين "بيضا"، بخصوص "الإحلال الكبير".
ما هو هذا المفهوم الذي يرفض صاحبه تسميته مفهوما، وإنما يعتبره توصيفاً لحالة قائمة؟ إنه 
إحلال الأوروبيين البيض بمسلمين داكني البشرة أو سود. وتعود النظرية إلى نهاية القرن التاسع عشر، وكانت حينها تخص اليهود والأرمن. و"تطورت" النظرية العنصرية القاتلة لتشمل الأفريقيين، لتستقر في السنوات الأخيرة على المسلمين. ويستطرد كامو في سرد كرهه الباعث على الغثيان للأجانب، وبصراحةٍ يندى لها جبين المتعلم في الحدود الدنيا، ليعتبر أن الاستعمار الحالي هو استعمار الجنوب للشمال، وأن المسلمين سيحلون مكان الفرنسيين "الأصليين"، من دون تحديد مفهوم الأصل. كما أنه يتهم الزعماء السياسيين في أوروبا، على مختلف مشاربهم، بمحاباة "الإحلال الكبير"، وتشجيعه للحصول على أيدي عاملة رخيصة وتدوير عجلة الإنتاج الرأسمالي بتكاليف منخفضة.
"إحلالٌ كبيرٌ" يُنظّر له فاشل تحوّل من اليسار إلى اليمين، باحثا عن معنى لذاته المضطربة، لكنه، في الوقت نفسه، استطاع إقناع عدد من الفرنسيين وغيرهم من "البيض" برجاحة توجّهه. حتى أنه جذب بعض العرب، أو من في حكمهم، والذين يجدون في نظريته منطقاً، ويتودّدون له، أو لأزلامه الفكريين، مثل المدعو إيريك زيمور. وفي سابقةٍ مخجلةٍ بحق العقل، اعتبر بعض العرب، أو الذين يلوذون بهم جغرافياً، زيمور عميق الثقافة ولمّاحا ولطيفا. وعلى الرغم من اعتبار أقصى اليمين الفرنسي زيمور قاسيا في أحكامه، وقطعيا في تصنيفاته، ومتطرّفا في تعبيراته، إلا أن مفهوم "عرب الخدمة" تطوّر ليوجد لهذا العنصري غير المصنف مهنياً من يمتدحه ويتقرّب منه ويسعى إلى أن يتثمل به.
في آخر إنجازات هذا المثير للجدل العنصرية توجهه بخطاب حربي لاجتماع اليمينيين المتطرّفين، والذين هم على يمين حزب التجمع الوطني اليميني، لمؤسسه جان ماري لوبين، والذي تقوده ابنته مارين، حيث تحدّث بوضوح عن الإحلال الكبير، وحصره بالمسلمين، وأشار إلى عدم إمكانية التمييز بين المسلم والإسلامي والإسلاموي والراديكالي والمتطرّف.. إلخ. كما أنه أشار إلى ورود عبارات القتل والكراهية في النصوص المقدّسة لدى المسلمين. وبالتالي، يستحيل التعامل معهم إلا قتلة محتملين.
إيريك زيمور ورونو كامو وجهان لكيس قمامة واحد، مليء بالكراهية والحض عليها، وكره الذات والآخر، والعبث بالمفاهيم وبالوقائع وتزييف الأرقام، واستغباء من يرغبون من الجهلة أو من 
مدّعي الثقافة. ويوجد محبّون له يغضبون لمتابعة القضاء لتصريحاته ومحاسبته أكثر من مرة على تحريضه على المسلمين ونشر خطاب الكراهية. وهم يعتبرون، بصفاقةٍ قل نظيرها، أن الحد من انفلاشه الأخلاقي هو ممارسة لرقابة قمعية على حرية التعبير. ما يتفوّه به زيمور وأمثاله لم يجرؤ هتلر وأقرانه على الخوض فيه قبل التحكّم في مفاتيح السلطة، فهل يصمت العقلاء من اليمين ومن اليسار أمام هذا الإسهال الفكري، ليحفظوا التزامهم بحرية التعبير؟ وهل حرية التعبير تعني السماح للمجرمين الكلاميين بالتفوه بعباراتٍ يمكن أن تودّي إلى الإرهاب؟
قال المجرم الأسترالي الذي قتل مصلين في مسجدين في نيوزيلاندا، بصريح العبارة، أمام المحققين، إنه زار فرنسا، وقرأ نظرية كامو عن "الإحلال الكبير"، وتأثر بها، وقام بما يمليه عليه واجبه من دورٍ لوقف هذا الإحلال في بلاده.
الأوروبيون الآن أمام رهان كبير، فإما أن ينظفوا مجتمعاتهم بطريقة ديمقراطية من هذه الأعشاب الضارّة، ويبتعدوا عن المزاودة الانتخابية عليها في الانتخابات، أو أنهم سيجدون التطرّف صار وجهة نظر، وأن الكراهية ستقود مستقبلهم القريب.