ما يعنينا في محاولة عزل ترامب

ما يعنينا في محاولة عزل ترامب

05 أكتوبر 2019
+ الخط -
لعل ما يستحقّ معاينته في خضم إجراءات محاولة عزل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من طرف الديمقراطيين في مجلس النواب، أن ترامب أخذ يفقد السيطرة على أعصابه، بصورة أكبر من ذي قبل، وأنه شرع في الكشف عن جوانب كامنة في شخصيته السياسية، فبدا أقرب إلى زعماء من العالم الثالث. وصف، في البداية، محاولة العزل بأنها إجراء "خطير وأن بلادنا لم تتعرّض لمثل هذا الخطر من قبل"، علما أن الخطر، في منظور السياسيين الراشدين، هو ما يهدّد الأمن القومي بصورة جسيمة، وليس ما يهدّد مكانة الرئيس ومصلحته الخاصة بالبقاء في البيت الأبيض. وبهذا، رفع الرجل الضرر الذي قد يتعرّض له، بنفسه وشخصه، إلى مرتبة خطر يهدّد الأمة الأميركية، وهذا هو ديدن زعامات العالم الثالث والأنظمة الشمولية التي ترى في مصلحة القائد ومصلحة الحزب مصلحة للوطن بأسره والشعب برمّته.
ولم يتوقف ترامب عند ذلك، إذ نعت الإجراءات الدستورية في مجلس النواب بأنها في منزلة "انقلابٍ" على الشعب، وعلى الاقتراع الشعبي الذي صوّت له، وهذه لغة عالمثالثية بامتياز، فكما أن مواقف أية معارضة هي في منزلة مؤامرة، ومحاولة للانقلاب، وليس أقل من ذلك، فإن ترامب يُظهر مضمون ثقافته السياسية، إذ يعتبر أن ممارسة السلطة التشريعية لحقها في تفحص وضع الرئيس، هي انقلابٌ وليس غير ذلك. مع تناسي أن النواب منتخبون ويمثلون الشعب، وأن الشعب يعبّر عن "نفسه" عبر ممثليه المنتخبين، وليس من خلال الرئيس فقط.
من حق ترامب احتساب الأمر معركةً، وأن يعمل، في ضوء ذلك، على الدفاع عن نفسه وعن
 موقعه، غير أن الرجل الذي سبق أن تحدث عن الخطر، لا يتوانى في التحذير من حربٍ أهلية. وهي لغةٌ لا سابق لها منذ طوت الولايات المتحدة صفحة الحرب الأهلية عام 1865. وكان قد شارك تصريحاتٍ للقس روبرت جيفرس لقناة فوكس نيوز: "إذا نجح الديمقراطيون في عزل الرئيس ترامب (وهو ما لن يفلحوا فيه) فإن ذلك سيؤدي إلى انقسام هذه الأمة، مثلما كان في الحرب الأهلية". والتحذير الذي يطلقه القس، مؤيدا من ترامب، هو من قبيل التهديد الضمني، وليس من زاوية الحرص والاحتراس، إذ كانت تكفي الإشارة إلى انقسام الأمة، بدون التطرّق إلى حربٍ أهلية.
وما يندفع إليه ترامب وحفنة من مؤيديه هو طعنهم في صورة الولايات المتحدة، الدولة العظمى التي تحتكم إلى سيادة القانون، وإلى استقرار مؤسساتها الدستورية، وإلى الفصل التام بين السلطات، والإعلاء من شأن حرية التعبير، وهو ما يجعل الصحافة ذات وزن خاص، تضاهي وضع سلطةٍ رابعة بالفعل. ويصنف الديمقراطيون في مجلس النواب ترامب بأنه يهدّد حرية الصحافة، وذلك من جملة مؤاخذاتٍ عليه، تشمل عرقلة العدالة، وانتهاك بند المكافآت في الدستور لصالح أعماله التجارية. من دون أن يتوقف الرجل عن حربه مع الآخرين، ومع كل من يعتبره ماسّاً بمصلحته الشخصية. وقد استخدم بالفعل عبارة: "إننا في حرب"، في اجتماعٍ مغلق مع دبلوماسيين أميركيين في الخارج قبل أيام. فيما نعت رئيس لجنة المخابرات في مجلس النواب، آدم شيف، بالخيانة، قائلا في تغريدة له على "تويتر": "أوقفوه بتهمة الخيانة العظمى". وخلال ذلك، يشن الرئيس حرب صلاحيات، بتأييد من وزير الخارجية، مايك بومبيو، لمنع مجلس النواب من الاستماع إلى موظفين رفيعي المستوى في "الخارجية" وسواها، بحجة تجاوز الصلاحيات الممنوحة للمجلس النيابي.
ليس ترامب متأثرا بالضرورة بصورة ديكتاتوريي العالم الثالث، لكنه يكشف عن هويته الشعبوية، وعلى الطريقة الأميركية، التي تلتقي مع هوية الديكتاتوريين، وذلك بمحاولة مخاطبة شرائح من الشعب بصورة مباشرة، وتأجيج مشاعرها، والاستهانة بدور المؤسسات ووسائل الإعلام المستقلة، للوقوف في صفّه، ولو أدى ذلك إلى إشاعة مناخات نزاع أهلي. ومن المرجح أن يتواصل هذا الهوس مع بدء التململ في صفوف الجمهوريين، وهو ما عبّر عنه النائب عن ولاية يوتا، ميت رومني، والسيناتور عن ولاية نبراسكا، بن ساس، اللّذان أعربا عن مخاوف وقلق مما يجري وتشكيك في موقف ترامب بشأن أصل القضية المثارة أخيرا عن مضمون مكالمةٍ هاتفية، جرت في 25 يوليو/ تموز الماضي، بين ترامب ونظيره الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي.
وفي هذه الغضون، ترتفع نسبة المؤيدين لعزل ترامب من 37% إلى 49% في استطلاعات 
الرأي (استطلاع إن بي آر)، فيما أيد أكثر من ثلاثمائة مسؤول سابق في وكالات الأمن والسياسة الخارجية، بينهم مدير سابق للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب، ومساعد سابق لوزير الخارجية، التحقيق مع ترامب تمهيداً لعزله. وقالوا في بيان، إنهم لا يريدون الحكم مسبقاً على الاستنتاجات التي قد يتوصل إليها الكونغرس في التحقيق. وأوضحوا: "يبدو أن الرئيس ترامب استغل سلطة وموارد أعلى منصب في البلاد لاستدعاء تدخلٍ أجنبيٍّ إضافي في عملياتنا الديمقراطية". وقال البيان: "من شأن هذا أن يشكّل إساءة استخدام غير معقولة للسلطة. كما أنه يمثل محاولةً لإخضاع مصالح أميركا الوطنية، ومصالح أقرب حلفائنا وشركائنا، لمصلحة الرئيس السياسية الشخصية".
هكذا تكبر كرة الثلج. وبيننا، نحن العرب، من يؤيد ترامب، وإن بنسبة أقل ممن يعارضه. وفي حال تم عزله، فإن هذا التطور لن يفيد سياسياً الجانب العربي بصورة مباشرة، فنائب الرئيس، مايك بنس، الذي يحل محل الرئيس في حال شغور منصب الرئاسة، هو مهندس دمج السياسة الأميركية الخارجية بسياسة اليمين الإسرائيلي المتطرّف. ويتخذ بنس الموقف نفسه الذي تبناه ترامب حيال إيران، وهو توجيه كل أنواع الضغوط إليها باستثناء الاحتكاك الحربي. وقد تكون الفائدة الملموسة فيما لو تم عزل ترامب (بموافقة 67 عضوا في مجلس الشيوخ من أصل مائة عضو) هي في حرمانه من الترشّح لولاية ثانية. بينما المهم أن صورة الدولة العظمى المتطوّرة تتعرّض للاهتزاز، ويتم الطعن في المؤسسات، ثم في الدستور حُكماً، وفي الآليات الديمقراطية، وفي التهديد بحرب أهلية من طرف ترامب، وهو ما يشكّل مصدر إلهام وذريعة ذهبية للمستبدّين وللشعبويين (الناطقين باسم الشعوب!) في بلادنا العربية.