زمن تحوّل خلاق

زمن تحوّل خلاق

05 أكتوبر 2019
+ الخط -
نتذكّر دوما ما توعدتنا واشنطن به من "فوضى خلاقة"، ونرى بأعيننا الكوارث التي أحدثتها في كل مكان من بلادنا، سورية. بهذا الخيار، واجهت زعيمة العالم الحر مواطنينا، بمجرّد أن نزلوا إلى الشوارع لاسترداد حرّيتهم من غاصبيها الذين ردّوا عليهم بفوضى غير خلاقة، يرعاها جيشٌ شُكّل لهذا الغرض، درّبوه على الفرار أمام العدو، والتصدّي لشعبه، وشن حروبٍ لا رحمة فيها عليه. 
لندع جانبا حقيقة أن نجاح الفوضى الخلاقة توقف على هذا السلوك الرسمي الذي أنجبها حيثما استخدم السلاح ضد الشعب الأعزل: من سورية إلى ليبيا، فاليمن، ومصر، تنفيذا لخطط وضعها دهاقنة أميركان، ردّا على مأزق واجهوه في العراق. وقد استجاب النظام الأسدي، أكثر من أي نظام آخر في العالم، لمتطلبات فوضى واشنطن، بعد ثورة الحرية عام 2011، ونشر من دون مبرّر قدرا من الفوضى والتدمير في وطننا، أسقط نيفا ومليون شهيد من جميع الأطياف السورية، بذريعة تورّطها في "مؤامرة كونية" استهدفته، أداتها شعبه، على الرغم من أن الأسدية هي الطرف الذي تقاتل إلى جانبه قوة عظمى هي روسيا، وأخرى إقليمية اسمها إيران، فضلا عن عشرات تنظيمات الإرهاب متعدّية الجنسية، في تكاملٍ محيّر بين خطة واشنطن وتنفيذها الروسي/ الإيراني/ الأسدي، الذي سببّ ما أسمته وزيرة خارجية أميركا، كوندوليزا رايس، "أهوالا لا سابقة لها، ستفكّك الدول القائمة تمهيدا لإعادة تركيبها".
هل تحوّل ثورتا السودان والجزائر زمن الفوضى الخلاقة الذي دفع السوريون ثمنه الأفدح إلى زمن تحول سلمي وديمقراطي خلاق؟ صار هذا السؤال يستحق الطرح، بعد توفر عاملين فيهما كبحا الفوضى: شعب طالب سلميا ومدنيا بالحرية والديمقراطية، لم تخترقه أو تحرفه عن هدفه تنظيماتٌ متأسلمة متعسكرة، وجيش رفض قمع الثورة، وأحجم عن العمل لشق صفوفها والتلاعب بها. هذان العاملان أنتجا توافقا وطنيا التقى عنده الشعب والجيش على ضرورة بناء نظام ديمقراطي يستند إلى شراكة في الأهداف والمصالح، تحفظ استقلالية الحراك المجتمعي ومؤسّسات الدولة، نقلت السودان إلى ما بعد نظام البشير، وينتظر أن تنتج توافقا مماثلا بين شعب الجزائر وجيشها، يقي البلاد والعباد المصير السوري، ويُبقيها خارج أيدي الفوضى ودعاتها، بعد نجاحهما في تمدين الحراك، وإضفاء طابع مجتمعي سلمي عليه، مثير للإعجاب، وطابع عسكري نجح في حمايته من الانزياح عن مطلب الحرية والديمقراطية الذي يبدو أن قيادة الجيش تتعاطف معه، وتحصّنه عبر محاكماتٍ تطاول رموز الفساد والتسلط، وتقوّض مرتكزات النظام القائم/ السابق، في السلطة وحزب جبهة التحرير.
وكان مستبدو السودان والجزائر وفاسدوهما قد خوّفوا شعبيهما من المصير السوري، وتناسوا أن من دمّر سورية، دولة ومجتمعا، لم يكن شعبها، بل جيش الأسدية الذي شن الحرب عليه. وقد رفض جيشا السودان والجزائر التماهي مع نظاميهما والانقضاض على الشعب، وأبديا قبولا لمطالبه المحقة، المماثلة لما طالب به السوريون، فقدّما أمثولةً تتفق وهوية الربيع العربي ومقاصد السوريين من ثورتهم، وسلمت مؤسسات الدولة، ونجا الشعبان من الهلاك.
بثورتي السودان والجزائر، وصمود الشعب السوري الأسطوري، تبدأ رحلة الخروج من فوضى واشنطن الخلاقة التي تولّى النظام الأسدي في دمشق وموسكو وطهران تطبيقها على المشرق، ويفشل طورها الأول، التفكيكي، بأهواله التي لا سابقة لها. وباليقظة الشعبية المتنامية في مصر وتونس والعراق، يعود المصريون إلى الشارع لاستعادة ثورتهم المغدورة. ويتخلّى التونسيون عن الذين اعتبروا الثورة صراعا على السلطة، ومنحوا ثقتهم لمن يرون أنهم أجدر من الأحزاب التاريخية بتحقيق أهدافهم، في إطار من الشرعية الدستورية وحكم القانون.
تقاوم شعوبنا زمن الفوضى الخلاقة في زمن تحول سلمي وديمقراطي خلاق، يعزّز المجتمعات والدول بدل تفكيكها وتدميرها، ويضع المبادرة في أيدي من تعلموا درس سورية، وقرّروا أن حق شعبهم في الحرية أسمى من حقهم في قتله من أجل الكرسي.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.