مملكة أمجد ناصر

مملكة أمجد ناصر

01 نوفمبر 2019
+ الخط -
سأل أمجد ناصر، في مطلع قصيدةٍ كتبها في دمشق، في العام 1982، وضمّها في مجموعته الثالثة، "رعاة العزلة": "كيف أكتب قصيدتي/ وأنا لا أملك إلا حُطام الوصف؟". وكان قد افتتح قصيدةً سابقة، كتبها في بيروت، في العام 1979، ضمّها في مجموعته الأولى "مديح لمقهى آخر"، بأن "الكلام فضةٌ/ والشعر ذهبٌ/ والنساءُ رنين المعدنيْن/ والقصائد/ لغتنا من الآن فصاعدا". .. منذ هناك، في نصوصه الأولى، وهي ليست بواكيرَه بالضرورة، وأمجد يقيم في منطقةٍ من كتابة الشعر الوصفُ فيها نافر، لا أناقة فيه، ذو حدّةٍ عالية، إعجابُك به يصدر عن عدم سهولته، عن مفارقتِه البساطة. وعندما كان يَسأل مبكّرا عن كيفية كتابتِه قصيدتَه، في إحالةٍ إلى لونٍ من الحيرة، بدا أنه يأنف من الوصف، وهو الذي لا يملك منه غير حُطامه. في أكثر من أربعين عاما من الشعر، من الكتابة، وهو ممن يستعصي اعتقالُهم في زجاجةٍ، اسمُها قصيدة النثر، على ما كتب، مرّة، الناقد المغربي صلاح بوسريف، أظن أن أمجد ناصر كان شديد الحذر من أن يكون وصّافا، بمعنى أن يكتب ما يرى، أو ما يتخيّل، أو ما يتصوّر، بلغة المجاز والاستعارة، وإنما بالذهاب إلى مساحةٍ أخرى، يقطفُ منها البعيدَ عن المثال والشبيه، ويتطرّف في مفاجأة قارئه في مغامرتِه هنا. عدا عن تطرّفه الذي تدرّج فيه، منذ بواكيره السبعينية، وصولا إلى قصيدته الأخيرة، المتعدّدة الطبقات، مملكة آدم، (منشورات المتوسط، 2019) في النثرية، المتحرّرة ليس فقط من أي موسيقى أو إيقاع، بل من أي وفاءٍ للفهم الذائع عن الشعر، لا لأن أمجد ناصر مضادٌّ، في ثقافته وكتابته ووجدانِه وحياته، لكل ما هو تقليدي، وإنما أيضا انصرافا إلى أقصى الأقاصي في بناء الشعر الذي يريد، من السرد الفالت مثلا، من النص المنسرح الذي يؤالف بين محكياتٍ ومشهدياتٍ، من الكتلة الأشبه بقصةٍ متتابعة التفاصيل، بجمل قصيرة. 
ضمّت مجموعة أمجد ناصر، الحياة كسرد متقطّع، (2004) قصائد غالى فيها في تطرّفه ذاك، لكنه بدا في أمره هذا يواصل الإجابة على سؤاله القديم: كيف أكتب قصيدتي؟ فيما هو لا يملك غير حُطام الوصف. وواحدةٌ من مفارقاتٍ في واحدةٍ من قصائد هذه المجموعة أنه يسمّي السرطان "صائد الغفلات اللعين"، لا يصفه. القصيدة تحكي حكيا مسترسلا عن صديقٍ مشترك مع صديق آخر أصيب بهذا المرض، ".. وجدوا الورم الخبيث متمكّنا من الدماغ فاستأصلوه". تحكي القصيدة عن العلاج الكيماوي الذي خضع له الصديق، لعلّه المُهدى إليه القصيدة، المصوّر الفوتوغرافي السعودي صالح العزّاز، والذي توفي بعد عناء مع السرطان. يختتم أمجد القصيدة، النصّ الطلقَ الليّن البالغ النثرية والذي يسميه "حديث عادي عن السرطان"، بأنه ليس متأكّدا أن الشعراء قادرون على التنبؤ بموتهم.. ولكنه يتنبأ بأن يموت في يوم ماطر في لندن، ويوصي، في القصيدة الخالية من أي شعورٍ بتفجّع أو أسىً أو نبرة رثاء، بأن يُدفن في المفرق (مدينته في الأردن) قرب أمه. وهنا لا فراسة ولا غيرها كانت لدى أمجد عندما كتب هذا، ليس فقط لأنه لم يمُت في لندن في يوم ماطر، ولا لأن الشعراء غير مطالبين بالتنبؤ كيف يموتون، وإنما أن القصيدة أرادَها صاحبُها هكذا، حرّةً طلْقةً، برّية.
أجدني وأنا أجول في قصائد للصديق الزميل الأحبّ، أمجد، وأرى هنا ما أرى، لا أقع تماما في "مملكة آدم"، آخر ما نشر من شعر، على ما أقول في "الحياة كسرد متقطع"، كأنه ربما رمى في تلك التجربة مغامرةً جدّ جريئة، ثم غادرها ومضى إلى ما يجوز أن نظنّها ضربةً شعريةً اجتمعت فيها كل خبرات قصيدته التي سأل، قبل نحو أربعين عاما، كيف يكتبُها، فيما لا يملك غير حطام الوصف. منسوبُ النثرية هنا أقل، ولكن من النوع الذي لعب في مساحته أمجد طويلا. يُشاغل في القصيدة الطويلة (سبعة مقاطع) في الكتاب (79 صفحة، بمقدمة صبحي حديدي وتخطيطات أنس نعيمي) الموتَ الذي يصنعه متوحش، يعتني بالفتك الذي يُحدثه هذا القاتل، بالدم الكثير، بالدم والبلازما، بالسّارين والبراميل. من غير اللائق، ولا الكياسة ربما، أن يتم "إيجازٌ" لهذا النص الصيحة، ولا شرحٌ له، لأن النشيج فيه يُحافظ على وقعٍ لا تقدر على مقاربته عبارات مقالةٍ سيّارة. الأجدى أن تُقرأ قصيدة "مملكة آدم" فقط، لنرى فيها الموت السوري الراهن، وغيرَه، مثلا. ولنقرأ أمجد يكتب فيها: "أنا نبيٌّ من دون ديانةٍ ولا أتباع. نبيّ نفسي، لا أُلزم أحدا بدعوتي، حتى أنا". .. هذا ليس حطامَ وصفٍ، وإنما بيانٌ أخيرٌ من أمجد ناصر، قبل الوداع، ومغادرته مملكته في الشعر والكتابة والحياة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.