"كُلّن".. ضد أمراء الحروب والطوائف

"كُلّن".. ضد أمراء الحروب والطوائف

01 نوفمبر 2019
+ الخط -
هناك ثوراتٌ تتعاظم أهميتها، لأنها تتجاوز أهدافها المطلبية إلى ما تحمله من إمكاناتٍ واعدة لتغيير مجتمعها المحلي، وكذلك مستقبل المنطقة. ولذا تحتل هذه الثورات مركزيةً لا يمكن إغفالها بالنسبة للموجات المتعاقبة لثورات الربيع العربي التي شهدتها المنطقة. وفي هذا السياق، تشكل الثورات الشعبية في العراق ولبنان أهمية فارقة، ليس فقط في تمثّلاتها السياسية والاجتماعية، وإنما في مضامينها السامية التي قد تصوغ واقعاً عربياً جديداً خارج الثنائيات الإيرانية - السعودية المتصارعة التي حكمت المنطقة عقودا، وأثّرت عليه سلباً، وجعلته بؤرة دائمة للاستقطابات السياسية الإقليمية والدولية، والتي أفضت، في أمثلةٍ عديدةٍ، إلى اندلاع الحروب الأهلية والطائفية، إذ يمثل اندلاع الثورتين، اللبنانية والعراقية، تحولاً تاريخياً فارقاً في المنطقة، يمكن أن يُبنى عليه في مجتمعاتٍ عربيةٍ مماثلة، وإن ارتبط تخلّق الحراك الثوري في لبنان والعراق بالظروف المعيشية القاهرة التي يعاني منها المواطنون في البلدين، في مقابل فساد الطبقة الحاكمة ونهبها الأموال العامة، أكثر من كونه مرتبطا بمتغير أو دافع إقليمي، إذ أكّدت الاحتجاجات المتصاعدة في البلدين على الإرادة المجتمعية المتجاوزة للتناقضات الطائفية والتعقيدات التاريخية، والتي لطالما عوّل عليها السياسيون لمصادرة حقوق المجتمع المحلي، وبالتالي تمثل الثورة في لبنان والعراق خلخلةً أوليةً للنظام السياسي الطائفي المحلي المتجذّر، سواء استطاع المتظاهرون إسقاط النظام الطائفي أو لم يتمكّنوا من ذلك، وبالتالي مقدّمة لتحرّر المجتمعات العربية الأخرى من دائرة الثنائيات المتصارعة، فضلا عن تداعياتها على بلدان حروب الوكالة. 
على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، صاغ النظام السعودي، وخصمه الإيراني إلى حد كبير، المعادلة السياسية المحلية في كل من العراق ولبنان، وحالياً تَفرض هذه المعادلة ثقلها في اليمن التي تشهد
حرباً بالوكالة، فقد حدّدت السياسة السعودية والإيرانية جغرافياتٍ متنوعةً لتأكيد حضورهما الإقليمي، فإضافة إلى الجغرافيات التوافقية التي تمثل مناطق نفوذٍ مشترك، والتي تستخدم ورقة سياسية للتفاوض في ملفاتٍ أخرى، مع توظيفها وفق صراعهما الإقليمي في حروبٍ تنافسيةٍ لضغط أحدهما على الآخر، حدّد النظامان مناطق نفوذ رئيسة تشكل عمقاً حيوياً بالنسبة لهما، كونها تمثل خاصرة نفوذهما الإقليمي، ونقطة انطلاق لامتداداتهما إلى مناطق أخرى بعيدة عن حدودهما، إذ تعد العراق ولبنان منطقتي نفوذ استراتيجية لإيران، ثم وبشكل غير مباشر للسعودية التي استفادت من الحضور الإيراني لمراكمة وجودها، وبالتالي وظفتا أدواتهما المحلية، من خلال شكل السلطة الحاكمة الطائفية أو الجماعات الدينية الموالية لهما، لتجذير نفوذهما، الأمر الذي أدى إلى حجب مصالح المواطنين والتحايل عليها، ورهنها بثنائية الصدام أو التنافس الإقليمي، ومن ثم تحول النظامين إلى حكومتي ظل تتقاسمان إدارة الدولة أو تعطّلانها، إلا أن ذلك لم يكن الكلفة الوحيدة التي تعانيها هذه المجتمعات المُصادَرة من الخارج، فقد أدّى احتكار النظامين، الإيراني والسعودي، المجال السياسي لهذه الدول إلى استدامة توازن الرعب المحلي الذي هو انعكاس للصراع السعودي - الإيراني في الإقليم، كما أدّى تصدير النظام السعودي نفسه ممثلا للطائفة السنية في مواجهة خصمه النظام الإيراني، ممثل الطائفة الشيعية، إلى تنامي الصراع الطائفي في المنطقة من جهة، وتجذير النظام الطائفي في لبنان والعراق أكثر من السابق، ومن ثم كبح أي حراكٍ مطلبيٍّ محليٍّ في هذين البلدين قد يقوّض التركيبة السياسية الطائفية، كما عملتا جاهدتين، من خلال وكلائهما المحليين في مناطق أخرى، على محاولة فرض النظام الطائفي وتسويقه حلا سياسيا.
يمثّل نظام المحاصصة الطائفية نموذج السلطة الحالية في العراق؛ فبعد إطاحتها نظام الرئيس صدام حسين، فرضت الإدارة الأميركية المحتلة للعراق نظاما سياسيا طائفيا، عكس رؤية المحتل الأميركي والقوى المتحالفة معها لطبيعة الحل السياسي في العراق، من خلال تغليب الطائفة الشيعية سلطةً حاكمةً تمثل الأكثرية، مع محاصصة متفاوتة للجماعات السنية والأحزاب الأخرى، إلا أن هذا النظام الطائفي لم يفجّر التوترات الطائفية الكامنة في المجتمع العراقي فقط، وإنما كرّس سيطرة إيران على العراق ساحة خلفية لها، إذ نجحت من خلال وكلائها المحليين في مصادرة الحياة السياسية في العراق لصالح الطائفة، ومن ثم أكّدت السلطات المتعاقبة في العراق ديمومة الصراع الطائفي في دوراتٍ متتاليةٍ من الاقتتال الأهلي الطائفي، إضافة إلى فساد المؤسسة السياسية ونهبها أموال الدولة مقابل إفقار العراقيين، إذ أثبت النظام الطائفي في العراق فشله، ليس حلا سياسيا حتى مؤقتا فقط، بل وبكونه جذر المشكلات الوطنية، وهو ما أدركه العراقيون أخيراً، حيث تصاعدت المظاهرات الشعبية في معظم المدن العراقية، بما في ذلك المدن الشيعية، إذ اتّحد العراقيون، على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وطوائفهم، ضد سياسة الإفقار وفساد النخب الحاكمة، وضد النظام الطائفي، في تجلٍّ اجتماعي واعٍ لرفض النظام الطائفي. وفيما دانت السلطات الايرانية المظاهرات العراقية، واعتبرتها تحدّيا لها ومؤامرةً لضرب نفوذها في أهم معاقلها الإقليمية، فإنها دفعت وكلاءها المحليين في العراق، من خلال الأجهزة الأمنية الطائفية ومليشياتها لقمع المتظاهرين بوحشيةٍ لا مثيل لها، حيث كشف بطش النظام الطائفي في العراق في حق المتظاهرين عن عنف الطائفة في أبشع صورها ضد الجميع، بما في ذلك أبنائها، حيث قُتل، منذ بدء التظاهرات، مئاتٌ من المدنيين العراقيين، بالإضافة إلى الإخفاءات والإعدامات التي طاولت صحافيين ونشطاء.
بوصفه نموذجا مركزيا آخر للنظام الطائفي في المنطقة، يهتز الآن تحت وقع ثورة عظيمة 
ومفاجئة في أكثر المناطق العربية هشاشةً من جهة، واستقطاباً طائفياً وسياسياً من جهة أخرى، يمثل النظام اللبناني الصورة الأخرى لنقائض النظام الطائفي ومشكلاته. وفيما كان هذا النظام (اللبناني) نتاجا لاتفاق الطائف في تسعينيات القرن الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أنه أبقى على شبح الحرب حاضراً في المجتمع اللبناني، من خلال توازن الرعب الذي فرضته القوى الدينية والطوائف المختلفة، بما في ذلك تحويل الشارع إلى سلاح لفرض مطالب القوى الدينية والأحزاب، لا مطالب اللبنانيين، إلا أن الثورة الحالية التي تشهدها معظم المدن اللبنانية، بما في ذلك معاقل القوى المسيحية والسّنية والشيعية، تشكل إدانة صريحة للنظام الطائفي الذي يحكم لبنان، إذ يؤكد هتاف المتظاهرين اللبنانيين ضد جميع زعامات الطوائف والسلطة الطائفية الحاكمة إدراك اللبنانيين أن سياسة الإفقار تطاول الجميع، بمن في ذلك أنصار الطوائف، وأن الفساد والاستبداد السياسي والطائفي عابر لكل الطوائف والأحزاب. وفي حين يحاول النظام الطائفي في لبنان التماسك حتى الآن أمام المتظاهرين، وعدم التكشير عن أنيابه، عكس الحال في العراق، في محاولةٍ لامتصاص غليان الشارع اللبناني، فإن تهديد قيادات حزب الله الموالي لإيران المتظاهرين اللبنانيين، بما في ذلك تهديده بمليشياته والتلويح بحربٍ أهليةٍ قادمة، هو مثال لا يُخطئه التاريخ على أن الوكيل المحلي، مهما حاول تقديم نفسه قوةً وطنية، لكنه لا يمثل مصالح المجتمع المحلي، وقد يذهب بعيداً في دفاعه المستميت عن نفوذ راعيه الإقليمي.
في ملحمة الشعوب التي تصاغ الآن في العراق ولبنان، لا فرق بين سلطة الفساد الطائفية ورموزها، فإن إيران اليوم، والتي بالطبع تستدعي نفوذ السعودية في مناطق أخرى، وكل القوى الإقليمية التي تحرك بيادقها لحماية مصالحها، تدخل في معركةٍ مفصليةٍ مع إرادة المجتمعات للتحرّر من هيمنة القوى الإقليمية المتنفذة ووكلائها ومرجعياتها الدينية. وإذ كان نفوذ إيران يهتز الآن على وقع أقدام المتظاهرين اللبنانيين والعراقيين، فإن إخصاء النفوذ الإيراني أو تقليمه سيهز، بالطبع، بيادقهم المستنسخة الأكثر بؤسا وغباء في اليمن وسورية.
97D578E8-10ED-4220-B7E6-97386BBC5882
بشرى المقطري

كاتبة وناشطة يمنية