شهيد القطار.. موجز عن المأساة في مصر

شهيد القطار.. موجز عن المأساة في مصر

01 نوفمبر 2019

(عمران يونس)

+ الخط -
شهيد تذكرة القطار، الشاب المصري العشريني محمد عيد، يختصر جزءا من الوضع المأساوي في مصر، على مستوى البنية الاقتصادية من فقر يثقل كاهل المصريين عموما، والشباب خصوصا العاطلين من العمل، والمشتغلين بأعمالٍ هامشية. ارتفاع أسعار الخدمات الذي تضاعف خلال أربع سنوات مضت، وزيادة نسب الإعالة بين النساء والشباب، خصوصا في استمرار ندرة فرص العمل، قياسا بقوى العمل، كما أن الحادثة ببشاعتها توضح جانبا من بنية السلطوية الهرمية، من رأس النظام وحتى بعض صغار الموظفين الذين يستخدمون العنف والقهر فى تعاملهم مع الجمهور، خصوصا البسطاء منهم. ليست المرة الأولى التي يشعر المصريون فيها بالإهانة أمام قسوة ظروفهم المعيشية التي تدّعي أبواق السلطة كذبا أنها في تحسّن. وقد أوضحت تسجيلاتٌ مصوّرة سابقة إذلال عجائز في إحدى جهات صرف المعاشات. وبالمصادفة، كُشفت وقائع وانتشرت، لتكون محل نقاش مجتمعي، من فرط قسوتها. وتمثل حالة شهيد تذكرة القطار، وغيرها من حالاتٍ مماثلة، قمة جبل انتهاك الإنسانية، وصور القهر المتعدّدة والمتشابكة، قهر السلطة، الخوف من ملاحقة أجهزة الأمن، بؤس الواقع الاقتصادي. عمق المأساة في مصر سحيق، حيث انتهاك الحقوق والكرامة تحت وطأة سياسات اقتصادية تزيد الفقراء فقرا وبؤسا وخوفا أحيانا، صورة قد لا ترصدها التقارير الرسمية التي تحاول تجميل الواقع الاجتماعي والاقتصادي المعيش، عبر بياناتٍ وأرقامٍ حول نسب النمو الاقتصادي الذي ارتفع بقدر ضئيل، أو معدلات ارتفاع احتياطي العملة الأجنبية، لكنها تتجاهل نسب الفقر والإعالة والبطالة ونسب التضخم غير المسبوقة، ومظاهر العنف ومعدلات الانتحار، والعنوسة والطلاق المبكر، وكلها مؤشراتٌ مقلقةٌ تتم مقابلتها بالصمت. 
كل الوقائع التي توضح المأساة المصرية، أو جانبا منها، تبدو في تبريرها فردية، أو يتم فيها إدانة الضحايا، أو تمزج بالطريقتين، كما فعل وزير النقل المصري، كامل الوزير، لما أعلن أن شهيد 
القطار ليس طفلا وكان يعرف تعريفة النقل. ثم ذهب بعدها إلى أسرة الضحية يقدم العزاء، ويعدهم بالتعويض والعمل، بعد أن شعر النظام أن الحادثة أحدثت صدمة للرأي العام.
أجبر محمد عيد على القفز من القطار، بعدما خيّره رئيس القطار بين دفع تذكرة القطار أو تسليمه للشرطة، وحين أعلن الشاب خلو جيبه، أجبره رئيس القطار على القفز من باب القطار، ليموت تحت عجلاته، بينما أصيب صديقه الذي واجه الموقف نفسَه. وتلخص عبارة الشاب محمد عيد الأخيرة "القطار مفهش رجاله" حالة العجز والاغتراب والوحدة، وفقدان المجتمع خاصية التضامن التي تميز بها المصريين، أي الجدعنة بتسمية أخرى. لم يجد شهيد القطار من الركاب "جدعا"، وربما لم يتخيّل الركاب أن رئيس القطار صادق في تهديده إلا حين سقط من القطار، ففزع بعضهم وبكى آخرون. ويتبدّى في الواقعة أن إحساس الشباب المصري بالاغتراب وفقدان الأمل عميق، فمن الوضع الاقتصادي إلى سلطوية النظام وعنفها، يتمدّد هذا الإحساس.. خاف محمد عيد فقفز من القطار، وهو ساخط على ركاب القطار والنظام.
... في يوميات الكدح، يتشابه قطاع كبير من العمالة الهامشية في ظروف عملها، ودخلها ووضعها الاجتماعي. كان شهيد القطار يسافر من القاهرة إلى الإسكندرية، السوق الموسمي لعمالة هامشية، تبيع خلال شهور المصيف سلعا للبسطاء بمكسب محدود، إكسسوارات، ميداليات، لعبا للأطفال. يعول الشاب أسرته الفقيرة في محافظة القليوبية، لم تسمح له موجة البرد، وكذا خلو الشاطئ، أن يبيع شيئا من بضاعته، فلم يمتلك حتى ثمن تذكرة العودة. وتختصر رحلته أحوال قطاع من العمالة غير المنتظمة التي تتسّع، وتضم خريجي التعليم المتوسط وبعض خرّيجي الجامعات، خصوصا المنتمين إلى فئات شعبية فقيرة، وهم حسب مؤشرات رسمية الأكثر بطالة وفقرا بجانب قطاع من أبناء الفلاحين، بعد تدهور قطاع الزراعة.
انتحر خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، المتفوق دراسيا، محمد شتا، في يوليو/ تموز 
2003، حين أسقطوه في "كشف الهيئة"، بعد أن اجتاز كل اختبارات القبول لوظيفة دبلوماسية في وزارة الخارجية. أخبرته اللجنة حكمها بأنه "غير لائق اجتماعيا". ثم على الرغم من الثورة وأحلام التغيير، بعد "25 يناير"، "ابن الزبال لا يصلح للعمل قاضيا"، بحسب وزير العدل السابق أحمد الزند الذي قال أيضا بكل صراحة "نحن السادة وهم العبيد"، في إشارة إلى معارضي النظام الذي يتغنّى بالكادحين فى مؤتمرات الشباب، فيكرّم فتاة الإسكندرية حاملة عربة البضائع، وفتاة عربة الكبدة في القاهرة، وهما مجرد نموذجين يستخدمهما النظام للدعاية. لا يحترم الكادحين، الشغيلة، من يعملون في أعمال هامشية، دوما يُنظر إليهم بوصفهم مشروع مجرمين، يُقتلون أحيانا. وليستا منسيتين واقعة قتل أعوان الشرطة بائع شاي في مدينة الرحاب، وسائق حي الدرب الأحمر، واليوم يُقتل شهيد آخر تحت عجلة القطار، لأنه لم يمتلك ثمن تذكرة النقل.
يفترش ملايين من الشابات والشبان في مصر الأرض أو يجوبون شوارع المدن، يبيعون سلعا، من أجل قوت اليوم، أو إعالة أسر، إخوة وآباء ربما. تستخدم الدولة بعض النماذج تلك، لزوم ما يلزم، لتقول إن هناك شبابا مناضلين من أجل لقمة العيش في مواجهة شباب منشغلين بمعارضة النظام، لكن كليهما ليسا عالمين منفصلين، وإنما هما شاهدان على صور الظلم المتعدّدة، ولكن هناك من لا يريد أن يتذكّر أو يفهم أن هذا الاحتمال لا يستمر، ولا الخوف باق، ولا العيش بهذه الطريقة ممكن.
خرج هؤلاء الشباب، وغيرهم في مظاهراتٍ مناهضة للتعذيب فى منطقة الدرب الأحمر والمقطم والأقصر والرحاب، وبعضهم نزلوا في تظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي، وهم قادرون مرة أخرى على التعبير عن معاناتهم. لا ينتمون إلى سردية المؤامرة، وربما لا يعرفون حتى تيارات السياسة على اختلافها، لكنهم ينتمون طبقيا إلى فئاتٍ موجوعة. رفاقهم هناك فى بيروت في "ثورة الموجوعين"، وكذلك في الريف المغربي المهمّش، وفي العراق يقفون، ببسالةٍ وصمودٍ وقوة، في مواجهة المليشيات ورصاصها. قبلهم كان محمد البوعزيزي في تونس. وكما كتب صاحب هذه المقال، في "العربي الجديد" سابقا، إننا أمام "بوعزيزيين" يطاولهم القمع والترهيب والتعطّل والفقر وفقدان الأمل، وقهر متعدّد الأوجه، لا تشير إليه المؤشرات الرسمية.. ماذا ننتظر من الموجوعين والمحرومين غير الصرخات والتعبير عن الألم والغضب.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".