لبنان.. النظام الطائفي يقاوم السقوط

لبنان.. النظام الطائفي يقاوم السقوط

31 أكتوبر 2019
+ الخط -
عندما يتهجَّم رموز النظام الطائفي على انتفاضة أبناء الشعب اللبناني، ويهاجمونهم في الساحات، فهم بذلك لا يقاومون هذه الانتفاضة والحراك المطلبي، إنهم لا يفعلون شيئاً سوى مقاومة سقوطهم أنفسهم أو تأجيله. سقوطهم هو سقوط النظام اللبناني الطائفي الذي توافق عليه أفرقاء الحرب الأهلية الذين غيَّروا لباسهم الحربي فارتدوا البذات الرسمية، ناقلين الحرب من الشوارع وجبهات القتال إلى داخل البرلمان والحكومة، عبر تحاصص مغانم السلطة والعقود والتعيينات. وعلى الرغم من إعلان الرئيس اللبناني، ميشال عون، في كلمته للمتظاهرين أن النظام "مشلول منذ سنوات، وعاجز عن تطوير نفسه"، إلا أنه مصرٌّ على حمايته لمنعه من السقوط وتغييره. 
وإذ قيل إن الرئيس اللبناني كان مرَّةً عضواً في قيادة المجلس الحربي الكتائبي، فإنه بدا في خطابه الذي ألقاه على اللبنانيين المنتفضين ضد حكمه وضد النظام ككل، في 24 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بدا متشبِّعاً بالفكر الكتائبي الذي صاغه وروَّج له مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، بيار الجميل، والد وجدّ آل الجميل الذين توالوا على رئاسة الحزب والبلاد، والذين منهم من لقيَ حتفه اغتيالاً، ومنهم من توفي بأجله، تاركين خلفاء صغاراً يتلهّون بالسياسة والزعامة الطائفية والحزبية. ذلك الفكر الذي يحرِّم تغيير "الصيغة اللبنانية" التي أسست للبنان الطائفي، والتي لم تفكِّر السلطة في تغييرها، على الرغم من كل ما ألحقته بالبلاد من ويلاتٍ وحروبٍ ونزاعاتٍ مذهبية. وهنا بدا عون عارفاً بهذه الحقيقة؛ إذ اعترف بأن الطائفية وراء جميع مشكلات لبنان منذ وُجد، وقال إن هَمَّه كان التخلص منها منذ أول يوم له في الحكم، لكنه لم يقل لماذا لم يفعل.
وعلى الرغم من اعتراف الرئيس عون في خطابه بأن "الطائفية حطمتنا"، إلا أنه لا يرى 
ضرورة لتغيير النظام الطائفي، إنه نظام مقدّس، قال: "النظام يا شباب ما بيتغيَّر بالساحات"، ولم يكشف عن المكان المناسب لتغييره، مع العلم أنه لم يسعَ، خلال عهده، حتى إلى محاولة تغييره. إنه نظام الصيغة اللبنانية التي كان بيار الجميل يردّد على الدوام: "الصيغة اللبنانية صيغة فريدة، حرام أن تتغيّر". هذه الصيغة وتلك الفرادة جلبت الحرب الأهلية التي قال متظاهرون إنها لم تنتهِ بعد، وإنها لا تنتهي سوى بإسقاط النظام الطائفي. ألم يروِّج أقطاب السلطة أن لبنان الذي أنهى معارك الحرب الأهلية يعيش في ظل سلامٍ أهلي؟ أليس ذلك تلويحا بإمكانية عودة تلك الحرب؟ وفي كلام أقطاب السلطة عن السلم الأهلي تأكيدٌ على غياب دولة المواطنة والقانون التي تضمن حرية المواطن وعيشه الكريم، بعيداً عن تهديده بالحرب الطائفية، أو بيتمه وفقره إن نفضَ عنه ولاءَه لطائفته، أو زعيمه الطائفي.
ولم يقل عون السبب الذي جعله يتغاضى عن سماع مطالب المحتجين الذين رفعوا الصوت عالياً في الساحات، مطالبين بإلغاء الطائفية السياسية من الدستور، سنة 2015، عبر الحركة الاحتجاجية التي عصفت بلبنان، وسميت "طلعت ريحتكن"، والتي طالبت أيضاً بمحاسبة الفاسدين، حين كان نائبا في البرلمان اللبناني. وهو لم يلاحظ، أيضاً، أن النقد الذي يوجهه الناشطون السياسيون والمثقفون لنظام الطائفية السياسية لم يتوقف يوماً، على الرغم من القمع الطائفي والأمني الذي كان يطاولهم. وعلى الرغم من ذلك، بقي اللبنانيون قادرين على ابتداع وسائل يتبدّى فيها نقضهم ومعارضتهم هذا النظام، وكان جديدها انتفاضة رفض النظام الطائفي والدعوة إلى تغييره، هو وجميع الفرقاء وزعماء الطوائف والأحزاب الطائفية القائمين عليه، الانتفاضة التي اندلعت، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ويبدو إنها لن تهدأ سوى بإسقاطهم "كلهم".
يحاول الرئيس عون إنقاذ النظام الطائفي عبر محاولة تطبيق القانون، ولكن أي قانون هذا الذي يقول إنه كان يطمح، منذ وصوله إلى الحكم، إلى تطبيقه عبر دولةٍ مدنية، ولم يستطع أن يضع مدماكاً واحداً لها منذ وصوله قبل ثلاث سنوات؟ وهل بحديثه عن إنفاذ القانون يحاول إنقاذ النظام؟ ربما يحاول ذلك عبر الإصلاحات التي نصّت عليها ورقة رئيس الحكومة، سعد الحريري، الإصلاحية التي أقرّها مجلس الوزراء بعد أيامٍ من انطلاق الانتفاضة، فهي لا تنص على تغيير الدستور الذي يكرِّس الطائفية السياسية، فتطبيق القانون عبر تلك الورقة يُبقي النظام الطائفي قائماً برموزه وبالمنتفعين منه على رأس عملهم في السلطة وإدارات الدولة. ولكن، حتى محاولة تطبيق القانون لن تنجح، لأن التعيينات القضائية التي تقرّرها السلطة، تعطي لكل طائفة وزعيم طائفي نصيبه منها، وبذلك يكفل جميع الفرقاء بعدهم عن المساءلة، إن جرت.
بدا الرئيس عون ليِّنا في خطابه إلى الشعب، لكن القسوة أتت في اليوم التالي من حليفه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، حين هدَّد المتظاهرين "بلاءاته" الثلاث، وخوَّنهم حين تحدّث عن 
تابعية بعضهم للسفارات، طالباً منهم أن يكشفوا أن لديهم متبرّعين من دول معينة وسفارات معينة، وحتى شخصيات ثرية، لم يسمِّ أيّاً منها. وكانت "لاءات" نصر الله بمثابة سد الطريق أمام تحقيق أهداف الحراك، حين قال: "لا نقبل بإسقاط العهد، ولا نؤيِّد استقالة الحكومة، ولا نقبل الآن بانتخاباتٍ نيابيةٍ مبكِّرة"، وهذه هي مطالب المنتفضين. وقبل خطاب نصر الله بلحظات، كان مناصروه يعتدون على المتظاهرين في رياض الصلح بالحجارة والعصي واللكم، مستكملين ما فعلوه في ساحاتٍ أخرى؛ في صور والنبطية والهرمل وغيرها، على مدى أيام الاحتجاج. وربما هذه بحد ذاتها رسالةٌ لهم، أن يعتبروا فيغادروا الساحات، لأن أي تغييرٍ لن يحصل، معتمدين في منع التغيير على القوة التي ربما أراد أفرقاء السلطة ألا تكون رسمية، عبر هراوات الأمن العام والجيش اللبناني، بل عبر الفريق الأقوى في السلطة، حزب الله.
بعد ثلاث سنوات من حكمه، اعترف الرئيس عون بفشله في تحقيق أيٍّ من الأهداف التي يطالب بها المتظاهرون، وأهمها مكافحة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة، وردَّ السبب إلى أنه مع كل محاولة لمحاسبة أحد سارقي المال العام، تنبري طائفته بالدفاع عنه، فتفشل المحاولة. ولكن تقول سيرة الرجل إنه لم يقم بمحاولة تغيير الدستور من أجل تغيير صيغة الطائفية السياسية وإفقاد زعماء الطوائف قوتهم، عبر تقوية الدولة الضامنة لحقوق الشعب. كما لم يُقدِم على خطوة حُسن نية، حين لم ينفِّذ أيا من بنود ورقة الحريري الإصلاحية، ومن الواضح إنه لن يفعل، وربما يكون السبب أنه فاقد القدرة، إن كانت لديه الإرادة.
وفي هذا الوقت، ليس لدى الرئيس سوى بيع مزيدٍ من الأوهام للبنانيين، وإظهار مزيدٍ من البطش في وجوههم، علهم يُسقِطون مطالبهم ويغادرون الساحات، تاركين السلطة اللبنانية تسقط من داخلها، بعد استفحال أزمة البلاد الاقتصادية. هذه الأزمة التي لم يستطع الحريري إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية التي تحدّث عنها قبل شهرين، لمنع انهيار البلد، وبالتالي انهيار السلطة، وهو انهيارٌ سيأتي لا محالة، ولن يأتي سوى من الساحات.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.