الحرية لا الإسلام أولاً

الحرية لا الإسلام أولاً

31 أكتوبر 2019
+ الخط -
فجّر شعار "كلّن يعني كلّن" الذي رفعته انتفاضة لبنان، وغدا أيقونتها المفضلة، سيلا من التداعيات التي تجاوزت حدود لبنان، حيث داعب أحلام الملايين من أبناء الأمة العربية الذين تعبوا من نخبهم الحاكمة، ومن يناصرهم من نخب الإعلام وكتائبه المدجّجة بالكذب، فضلا عن نخب الاقتصاد وهواميره المستأثرة بمقدّرات البلاد، ذلك أن هذا الشعار مسّ عصبا حيّا لدى هذه الجماهير المغيّبة عن صناعة مستقبلها، بعد أن سرقت النخب إياها ماضيها وحاضرها أو كادت.
تنبع أهمية هذا الشعار من أنه لا يستثني أحدا على الإطلاق، خصوصا تلك النخب الدينية التي تماهت مع السلطات الحاكمة، ووضعت عمائمها في خدمة الاستبداد، في أسوأ تحالفٍ ممكن أن يقوم بين الدين والسياسة، طبعا من الصعب، في ظل الظروف الحالية التي تمر بها الأمة، أن يمر هذا الشعار بسلام عبر منظومة معقدة من سلطات الحكم الرابضة على صدور ملايين المقهورين في الشرق، ليس بسبب قوى الداخل التي تحكم مباشرة فقط، ولكن أيضا بسبب ارتباطات هذه القوى بأسيادٍ خارج الحدود، ولا أدلّ على هذا القول من الهزّة التي ضربت حزب الله، جرّاء هذا الشعار الذي شطب بجرّة قلم كل الخطوط الحمر. ومع ذلك، فهو يؤسّس لمرحلة جديدة من مراحل نضال الشعوب العربية ضد جلاديها، ومن تواطأ معهم أو حتى من كان ضحيتهم من قوى سياسية وحركات إسلامية.
وهنا لا بد من وقفة، فشعار الخلاص منهم كلهم، بدون رائحة أيديولوجيا، أو حزبية أو حتى دين، له نوعٌ من الإجماع، ويوقع المتربصين بحريات الشعوب في لبس شديد، خصوصا بعد فشل أو إفشال التغيير عبر آليات الأيديولوجيا، وتحديدا ما سمّي "الإسلام السياسي" الذي رفع شعار "الإسلام هو الحل"، وهو شعار جمع حوله أعداء كثيرين، كما يجمع طبق الحلوى أسراب الذباب، ولعل هذا ما دفع الكاتب في الشأن الإسلامي، محمد أحمد الراشد، للقول في كتابه الجديد "المؤتمر" (دار إسطنبول2019 ): "سنظل تحت سطوة المستبدين دهورا أخرى، لغياب الحرية والحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وأنه لا بد من جعل "الحرية أولاً" هو الشعار للمرحلة السياسية الأولى، وليس "الإسلام أولاً". ولا بد من الاستفادة من تجارب شعوب العالم وطوائف الأحرار في كيفية صون الآليات الديمقراطية، وما يلحق ذلك من تعاون مع أحرار الأمم، وتحالف مع أحرار بلادنا من أبناء أمتنا الذين لا يؤمنون مثلنا بتحكيم الإسلام، فنتفق معهم لتحصيل حكم دستوريٍ بوسائل سلمية بحتة، وعن طريق الأدب والفنون والبحث القانوني والمعرفي، وباستخدام الكلمة والموعظة والإعلام الجاد".
ويدعم هذه الرؤية ما نراه من انضواء كل قوى المجتمع اللبناني تحت لواء شعار "كلن يعني كلن"، بغض النظر عن أي انتماءات حزبية أو دينية أو طائفية. وفي هذا درس بليغ للعقل الجمعي الذي يحرّك ثورات الربيع العربي في جولتها الجديدة.
ثورات الشعوب العربية حتى وإن بدا أنها لم تنجح حتى الآن في تحقيق هدفها الأكبر، وهو الخلاص من حكم الاستبداد، إلا أنها بدأت تراكم خبراتٍ وتجارب جديدة، تبشّر بأنها ستنجح بالنقاط، وليس بالضربة القاضية، ولا أدلّ على هذا من توليد حالةٍ عامةٍ من الشعور الجمعي لدى مختلف أبناء بلاد العرب، ما يغذّي، في النهاية، حالة الرفض للواقع المذل الذي يجد طريقة ما للتعبير عنه في الشارع، ووفق إبداعاتٍ عفويةٍ تقرّب الشعوب من الخلاص، حتى ولو على مراحل.
"كلّن يعني كلّن" هو التعبير الأوضح لـ "كلهم أو لا أحد"، لأن من يقوم بنصف ثورة يكون كمن يحفر قبره بيديه، كما يقال.