"إسلاموفوبيا" فرنسا تتمدّد.. عهد ماكرون يتخبط في جدل العلمانية

"إسلاموفوبيا" فرنسا تتمدّد.. عهد ماكرون يتخبط في جدل العلمانية

30 أكتوبر 2019

مظاهرة في باريس ضد الإسلاموفوبيا (27/10/2019/Getty)

+ الخط -
يعود الجدل في فرنسا بشأن اندماج مسلميها من جهة، ومحاربة التطرف الإسلامي من جهة ثانية، مجدّداً، إلى الواجهة، ليشعل سجالاً مجتمعياً وسياسياً حادّاً، يجد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، نفسه فيه عالقاً في الوسط، بين صراعات هوية الدولة وفخّ مقولة تكييف الإسلام مع علمانية الجمهورية. هذا الجدل الذي يرتدي عباءة فضفاضة تحمل شعاراتٍ مثل "تنظيم إسلام فرنسا"، أو "محاربة الطائفية داخل المجتمع"، أو "تفعيل مجتمع اليقظة"، ترتفع وتيرة انحيازه لـ"الإسلاموفوبيا" التي باتت متغلغلةً في المجتمع الفرنسي وسياسات زعمائه. هكذا، تواصل فرنسا انتهاج سياسة دفن رأسها في الرمال مع جاليتها المسلمة، فيما يُهوّل متطرّفوها من خطر "صدام حضاري" يقولون إنه قد يكون أقرب إلى الانفجار اليوم أكثر من أي وقت مضى.
فاطمة و"الوحش"
جاءت حادثة تهجم النائب في حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرّف ("الجبهة الوطنية" سابقاً بزعامة مارين لوبن)، جوليان أودول، على أم محجبة (فاطمة إي.)، خلال لقاء مدرسي خارجي نظمه المجلس الإقليمي لمنطقة بورغون – فرانش – كونتي (شرق فرنسا) في 11 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بعد أسبوع من مقتل أربعة عناصر من الشرطة الفرنسية طعناً في مقر شرطة باريس. في الحادثة الأولى، طالب أودول الوالدة المرافقة لابنها بنزع حجابها، انسجاماً مع "المبادئ العلمانية" للدولة، ونشر فيديو عن تهجّمه عليها بنفسه. واستناداً لصحيفة لوموند، فقد لحقت كذلك نائبة عن الحزب السيدة المستهدفة إلى المرحاض، وهددتها قائلة "عندما يأتي الروس، سترحلون". وفي الحادثة الثانية، قتل موظفٌ مدني (ميكائيل آربون) زملاء له في مقر شرطة باريس. وأعلن الادعاء الفرنسي لاحقاً أن منفذ الهجوم اعتنق الإسلام قبل سنوات، ورصدت مؤشّرات على "تطرّف كامن" لديه، واتصالات أجراها مع جماعات سلفية متشدّدة.
وبحسب صحيفة ليبراسيون، فقد فُتح ما لا يقل عن 85 نقاشاً عبر القنوات الإخبارية المحلية 
بشأن الحجاب في فرنسا، خلال فترة أسبوع منذ وقوع حادثة الهجوم العنصري لأودول، تضمنت 286 مداخلة، لم تشارك فيها أي امرأة فرنسية محجبة، باستثناء لطيفة بن زياتن، وهي ناشطة مغربية – فرنسية قتل ابنها على يد منفذ اعتداءي تولوز ومونتوبان في مارس/ آذار 2012، محمد مراح. وأعادت الحادثة إثارة الجدل سياسياً بشأن مسألة الحجاب في فرنسا. وقدّم نواب حزب "الجمهوريون"، مستفيدين من اللحظة، مشروع قانونٍ لمنع الأمهات المحجبات في البلاد من مرافقة أبنائهن في الرحلات المدرسية (جرت مناقشته أمس 29 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي). وكان واضحاً انقسام حكومة ماكرون على نفسها في هذا السجال، إذ رأى وزير التربية الوطنية جان ميشال بلانكيه (من حزب الجمهورية إلى الأمام)، أنه "على الرغم من أن القانون لا يمنع ذلك، إلا أن الأمر ليس مرغوباً فيه في فرنسا، ولا نية لدينا لتشجيعه". وأعربت المتحدّثة باسم الحكومة الفرنسية، سيبيت ندياي، عدم ممانعتها رؤية أمٍ محجبّة ترافق أطفالها في رحلة مدرسية.
وفي ما يتعلق بحادثة الطعن في مقر شرطة باريس، تحدّث وزير الداخلية الفرنسية، كريستوف كاستانر، عن خطةٍ لبناء "مجتمع يقظة وتأهب في كل أنحاء الجمهورية لمحاربة ومراقبة التطرّف الإسلامي"، كاشفاً عن إحباط المحاولة الـ60 لتنفيذ اعتداء على الأراضي الفرنسية منذ العام 2013، والتي كان يخطط لها أن تكون شبيهة بهجمات "11 سبتمبر" في العام 2001 في الولايات المتحدة. ودافع رئيس الوزراء الفرنسي، إدوار فيليب، عن رؤيته لـ"مجتمع اليقظة"، متحدّثاً عن "الوجه الأسطوري للمواطن الذي يدافع عن بلده". ووعد الرئيس ماكرون، خلال تأبين الضحايا، بـ"معركة بلا هوادة مع الإرهاب الإسلامي" المتطرّف، ودعا "الأمة جمعاء" إلى "التأهب" في وجه "الوحش الإسلامي". ورصد تداولٌ نشط لهاشتاغ "بلّغ عن مسلم" عبر حسابات فرنسية على مواقع التواصل الاجتماعي مباشرة بعد خطابه.
نقاش الحجاب.. سياسة متمدّدة
لم يتوقف النقاش بشأن قضية الحجاب في فرنسا يوماً، بل ظلّ حاضراً في المؤسسات السياسية أقله منذ أربعة عقود، وإن كان يخفت ويتراجع أحياناً، عبر الدعوات إلى تشديد قوانين منع المظاهر الدينية. وتمدّد النقاش تحت ضغوط اللوبي العلماني، من قانون صدر في العام 2004 في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، ونصّ على منع ارتداء الرموز الدينية الظاهرة في المدارس، ما اعتبر استهدافاً للطالبات القاصرات المحجّبات تحديداً، ليحظر ارتداء النقاب في فرنسا (صدر في 2010 وبدأ تطبيقه في 2011)، فيما ظلّت ترتفع الأصوات المنادية بإدخال الجامعات حيّز الحظر المفروض على الحجاب والمظاهر الدينية (خصوصاً في عهد حكومة مانويل فالس).
في موازاة ذلك، عاد النقاش حول الإسلام من خلال حجاب المرأة، بقوة، بعد اعتداء صحيفة شارلي إيبدو (يناير/ كانون الثاني 2015)، أو الأعنف منها التي ضربت باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ذاته، ليربط بين تمدّد الإرهاب وقطعة قماش تضعها المسلمة الفرنسية على رأسها. وإثر هجمات باريس في ذلك العام، وضع الحجاب وتقييده في الحيّز العام في عين عواصف النقاش، علماً أن القوانين التي سُنّت لمكافحة الإرهاب و"الطوارئ" المعلنة سمحت للشرطة الفرنسية بتفتيش آلاف من المسلمين في البلاد، ووضعهم على لوائح أمنية ومراقبتهم، ومداهمة أكثر من خمسة آلاف منزل خلال الأشهر الأولى التي تلت صدور قانون منح الشرطة صلاحيات أوسع، مع تمديد مهل الاعتقال.
ماكرون... هروبٌ إلى الأمام وحكم ذاتي
يرى الصحافي الفرنسي، إيف مامو، مؤلف كتابي "التخلي الكبير" و"النخبة الفرنسية 
والإسلاموية"، أن الرئيس الفرنسي ماكرون يسعى إلى منح مسلمي بلاده "حكماً ذاتيا"ً، يجعلهم أكبر مجتمع في فرنسا، من خلال تعديل القانون 1905، محذّراً من الخطر على العلمانية، ومعرباً عن اعتقاده أن 48 مليار يورو أغدقت منذ ثلاثين عاماً على تأهيل الضواحي الفقيرة في فرنسا لم تأت سوى بمزيد من التطرّف وذهاب 1700 "جهادي" مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما كتب في مقاله في صحيفة لوفيغارو (يناير/ كانون الثاني 2019).
ويصف صقور العلمانية في فرنسا، ومعهم التيارات اليمينية، سياسة عهد ماكرون في هذا الإطار بالميتة أو الضبابية. فيما يحاول الأخير تقليص ضبابيته، من دون نجاح يذكر. وتثير المسألة مخاوف لدى دائرته المقرّبة، متحدثين عن "ضرورة التقدّم حول ذلك"، على حدّ ما نقلت مجلة ماريان عن أحد أعضاء فريق الإليزيه الأسبوع الماضي.
وكان ماكرون قد أجّل أكثر من مرة خطاباً عن رؤيته للعلمانية في البلاد، خشية تداعياته السياسية. كما تحدث، بشكلٍ رسمي، أقلّه منذ نهاية العام الماضي، عن رغبته في إخضاع القانون 1905 (فصل الكنيسة عن الدولة) لإصلاحات، قال فريقه إنها تهدف إلى الانسجام مع المتغيرات التي طرأت على فرنسا، مع موجات الهجرة المتلاحقة من العالم الإسلامي. هذه الإصلاحات، جهّز لها فريق الرئيس، وكان مقرّراً لها أن تبصر النور في يناير/ كانون الثاني الماضي، لكنها أجلّت أكثر من مرة، فيما يدور الحديث اليوم عن تراجع الإليزيه عنها نهائياً، بعدما أثارت حفيظة التيار العلماني، وكذلك مسؤولي الديانات في البلاد.
وكان ماكرون يهدف، من بوابة إصلاح القانون المذكور، "تنظيم الإسلام في فرنسا"، برؤية أساسية تتمحور حول هيكلته وتأطير تمويله. وبالفعل، قدم وزير الداخلية، كاستانر، في الخريف الماضي، بعدما سبقه سلفه جيرار كولومب بسلسلة لقاءات "حول الإسلام" في الجمهورية، مسوّدة مشروع لإصلاح القانون، متحدّثاً عن "إصلاحٍ يليه تحديث للتماشي مع العام 2018". وباختصار، يصوّب المشروع نحو "الجمعيات الدينية أو دور العبادة"، إذ غالباً ما تفضل الإسلامية منها الدوران في فلك "جمعيات القانون 1901" الذي يمنحها مرونةً أكثر في استخدام أموالها. ويتيح المشروع، بحسب معدّيه، تحريك "النموذج التجمعي 1905" مع فتح المجال أمام مصادر تمويل جديدة، وإمكانية الاستفادة مادياً من مبانٍ دينية، ولكن مع رقابةٍ أكثر تشدّداً، تسمح للوزير المختص بمنع أي تمويل يراه مضرّاً بـ"النظام العام". كما يفتح المشروع الباب أمام بلورة فكرة "شرطة الأديان"، استناداً إلى أن إجراءات في القانون 1905 تمنع التجمعات السياسية في دور العبادة، هي اليوم غير مطبقة على نطاقٍ واسع. وواجه مشروع الإصلاح اعتراضاً واسعاً من التيار العلماني الذي اعتبر أن أدواته "تلبي النزعات المتطرّفة للإسلام السياسي"، و"تغذّي التيارات السلفية والإخوانية والتبليغية والمللي غوروش التركية..."، فيما رفضه مسؤولو الأديان السماوية كافة في فرنسا.
ويتهم خصوم ماكرون الرئيس بمحاولة إبعاد الشبهة عن نفسه باستهداف الإسلام والمسلمين في 
فرنسا، من خلال لجوئه، في بداية عهده، إلى "توريط" المسيحيين في السجال، من خلال خطابه الشهير في أبريل/ نيسان 2018 أمام أساقفة فرنسا، والذي دعا فيه إلى "إصلاح العلاقة التي تشوّهت بين الكنيسة والدولة"، غامزاً من قناة سلفه فرنسوا هولاند، الذي مرّر قانون توبيرا 2013 (نسبة لوزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا)، والذي أجاز الزواج للمثليين (ترافق مع ظهور حركة التظاهر للجميع manifestation pour tous المعارضة). هذا الخطاب الذي رأى مؤيدوه أنه متطوّر، استغله الخصوم ليضيفوا إليه ما وصفوها بحركات "تمويهية" أخرى لجأ إليها ماكرون أخيرا، حين شمل مسألة المهاجرين والإسلام والعلمانية في "الحوار الكبير" الذي أجري مع اندلاع حركة السترات الصفراء، الاحتجاجية. ويرى هؤلاء أنه، بدلاً من المسّ بقانون 1905، ومبادئه التي تعود جذورها إلى الثورة الفرنسية، فإن "تفكيك الإسلام الراديكالي في فرنسا يتوجّب إجراءات شجاعة، منها حظر منظمات جماعة الإخوان المسلمين في البلاد ومراكزها المتنقلة، وإنهاء تمدّد سطوة دول الخليج المالية، والتي تستفيد من تسهيلات ضريبية هائلة منذ العام 1990 (موقع بوليفار فولتير – يونيو/ حزيران 2019).
ويأخذ خصوم ماكرون عليه كذلك أنه الرئيس الآتي إلى الإليزيه من خارج إطار المؤسسة التقليدية وأحزابها، والذي لا يستمد مواقفه من يمينها أو يسارها. ومعروفٌ عن زعيم حركة الجمهورية إلى الأمام انفراده بالإعجاب بالموقف القريب مما رست عليه الأنغلوساكسونية في إتاحة الهامش لتبلور جماعات أقلية ودينية، ومنها إسلامية، في قلب المجتمعات البريطانية والأميركية، من دون محاربتها بالصهر والاندماج، على ما تسعى إليه دائماً التقاليد السياسية الفرنسية منذ نشوء الجمهورية (البرتونيين، الباسك، الألزاسيين وغيرهم). وبدا لافتاً تخبّط الرئيس في موقفه، وانزياحه عن هذا المبدأ، حين التحق منذ أيام بالركب المنادي بالدمج والصهر، معتبراً أن "من الضروري ألا نتسامح أبداً مع النزعة إلى تشكيل الطوائف".
اليوم، لم تعد نقاشات فرنسا حول إسلامها موسمية. صحيحٌ أن جزءاً منها يستخدم مرّات لتمييع النقاش حول قضايا تهز المجتمع الفرنسي ولا تزال، كانتفاضة "السترات الصفراء" المستمرة هبوطاً وصعوداً، أو التغيرات المناخية، أو البطالة، إلا أن عودة النقاش بشأن الحجاب وإثارة "مجتمع اليقظة" لمراقبة السلوكيات الإسلامية لا يمكن ربطه فقط بالاستغلال السياسي، ولا ببساطة إعادة إقحام المسلمين في نقاش عن العلمانية و"حياد الدولة". انغراس "إسلاموفوبيا" بنيوية في فرنسا باقٍ ويتمدّد، مطاولاً كل المكونات السياسية. من جهتها، تتحول العلمانية الفرنسية إلى "أيديولوجيا"، لتصبح هي الداء لا الدواء، كما يرى المفكر السياسي أوليفييه روا، فيما ينازع ماكرون لسدّ ثغرة "سيادية"، بوصفاتٍ مسكنة.
76175B33-4511-4E32-B2BD-6F3F39C4605C
داليا قانصو
صحافية لبنانية، من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".