من نعزّي في مقتل البغدادي؟

من نعزّي في مقتل البغدادي؟

29 أكتوبر 2019
+ الخط -
السؤال طرحه الصديق لقمان سليم على صفحته في "فيسبوك"، وجاءت أغلب الإجابات تشير إلى بشار الأسد، وحسن نصر الله، وإيران، والسعودية. ولم تخل بعض الإجابات، وبعض الكتابات، من تفسير ظاهرة "داعش" والبغدادي بأنها استجابة مباشرة لنصوص دينية وأخرى تراثية، أمرت بهذا النمط من الجهاد، فاستجاب لها المؤمنون بها. ويتمادى أصحاب هذه المعالجات إلى حد اعتبار "القاعدة" و"داعش" والسلفية الجهادية هم الصورة الحقيقية للإسلام والممثل الوحيد، والأكثر صدقا، له!
تأتي هذه المعالجات الثقافية، بالأحرى المتثاقفة، حينا على سبيل الاستسهال، وأحيانا أخرى على سبيل "الاستهبال"، بوعيٍ كامل، يحاول أصحابها من الصنف الثاني حماية مواردهم، ومصادر تمويلهم، من دولٍ كانت وراء الظاهرة، صناعة ودعما، وتروج هذه الكتابات بين الشباب العشرينياتي، مواليد الألفية الجديدة، أو قبلها بقليل، أولئك الذين لم يشهدوا تاريخ الجهاد الأفغاني وبداية تشكل ظاهرة الجهادية العالمية، ولم يقرأوا عنها، ولو على خفيف.
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كان البيت الأبيض على موعد مع ستة من قادة مقاتلي الجهاد الأفغاني، استقبلهم الرئيس الأميركي آنذاك، رونالد ريغان، واحتفى بهم، وكرّمهم، وأهدى لهم الرحلة الثالثة للمكوك الفضائي كولومبيا، وصرّح: إذا كان مكوك الفضاء كولومبيا يمثل أرفع تطلّعات الإنسان للتكنولوجيا، فإن مقاتلي الأفغان يمثلون أسمى تطلعات الإنسان إلى الحرية.. سماهم الإعلام الأميركي وقتها مقاتلي الحرية، وكذلك ريغان الذي لم يكن أول محطات الصناعة والدعم والتمويل للجهاد الإسلامي، بل كان متعقبا جهود سلفه، كارتر. ولم تكن تلك الزيارة الأخيرة، بل تكرّرت الزيارات، مرة ومرة، وتكرّر معها الاحتفاء والدعمان، المادي والإعلامي.
كانت الولايات المتحدة تستثمر في غضب المقاتلين الأفغان من الهجوم السوفيتي على أرضهم، وتستخدمهم في الحرب على الروس بالوكالة. هكذا تفعلها الأنظمة المحلية والعالمية طوال الوقت مع حركات الإسلام السياسي، سواء في مساحات الدم أو السياسة، تفريغ الانتصارات العسكرية للخصوم من محتواها، أو الالتفاف على الثورات العربية، وتجسير طريق العودة أمام الأنظمة القديمة بصورةٍ أكثر عنفا وشراسة. يبدأ الاستثمار بنسبة الإسلاميين إلى الحرية، وينتهي بنسبتهم إلى الإرهاب. وفي الحالتين، يقدّم الإسلاميون، على تنوعاتهم، خدماتهم، رغم أنفهم، ووعيهم، وأحيانا بوعي كامل! وكما حدث مع الثورات العربية، حدث مع "القاعدة"، ومن بعدها "داعش"، كانت المملكة العربية السعودية، على طول الخط، هي حليف الأميركان، وساعدهم. وفّرت في الثمانينيات دعما ماديا ضخما للمجاهدين الأفغان، تشير تقديراتٌ إلى عشرين مليار دولار. ووقف دعاة وعلماء على المنابر، يشجّعون الشباب على التأسّي بالجهاد الأفغاني، ومشاهدة شرائط "أفلام الجهاد"، كما استخدم الأميركان حدود السعودية لنقل السلاح إلى باكستان. واستخدم المجاهدون السعوديون المتطوعون المتطلعون، بلهف وشوق، إلى راية وجهاد وقيمة في زمانات العدمية السياسية وضعف الدولة العربية، استخدموا الخطوط الجوية السعودية في السفر، بعد أن أعلنت الأخيرة حسومات تصل إلى 75% للمجاهدين!
ومن كارتر وريغان، إلى أوباما وهيلاري وترامب، ومن فهد بن عبد العزيز وسلمان بن عبدالعزيز (كان أمير مكة في ثمانينيات القرن الماضي ورأس حربة في تمويل الجهاد الأفغاني) إلى سلمان مرة أخرى وولده، الحكاية قديمة جديدة، متكرّرة، تصنيع الإرهاب لتوظيفه، خاماتٍ تراثية، وخبرات أميركية، وإنتاج سعودي، التصنيع والتسويق، والتجارة والبيع والمكسب، ثم التبرؤ من السلعة، بعد انتهاء صلاحيتها، ومساعدة السلطات في إعدامها، من أجل الحفاظ على صحة الشعب. المكوّن الثقافي موجود، لكن أنّى له أن يتحوّل إلى تنظيمات مسلحة وممولة بمليارات الدولارات، وتخدمها وسائل إعلام ومؤسسات دينية، وفتاوى، وكتيّبات، ومقاطع صوتية، وفيديو، تستثمر في اليأس والغضب، وتحشد الشباب، لتقتل بهم وتقتلهم، ثم تلقي بجثثهم وجثث قتلاهم في مقابر العدمية والخواء.
إذا أردنا أن نعزّي في البغدادي، مجازا، فمثله لا يستحق سوى مزبلة التاريخ، فنحن نعزّي صنّاعه ومستخدميه والمستفيدين منه، في البيت الأبيض، وفي الرياض، وفي العراق وسورية، وجنوب لبنان، ونتطلع إلى موجات أخرى من وعي شباب الربيع العربي، تعيد لنا ما تبقّى من بلادنا، وغدا قريب.