في مآلات الانتفاضة اللبنانية

في مآلات الانتفاضة اللبنانية

29 أكتوبر 2019
+ الخط -
شكّل الحراك الشعبي في لبنان منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول مفاجأة للجميع في لبنان والخارج. لم يشهد لبنان، منذ استقلاله، تحرّكات شعبية واسعة من هذا النوع، وعابرة للطوائف، احتجاجاً على تردّي الوضع الاقتصادي والمعيشي، لكنّ الأزمة الراهنة لم تعد أزمة احتجاجات على سوء الوضع الاقتصادي، بل سرعان ما تحوّلت إلى المطالبة برحيل الطبقة السياسية الحاكمة، وإجراء تغيير سياسي. لا يعكس هذا التحوّل في الشعارات بالضرورة رغبة الشارع في إحداث تحوّل سياسي كبير، بقدر ما يُعبّر عن الغضب من ارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشبان الذين يُشكلون نحو 40% من سكان لبنان، ومعظمهم من المتعلمين جيداً، ويحملون شهادات جامعية، لكنّهم بدون عمل، وأكثرهم لم تُتح له فرصة الهجرة إلى الخارج. 
ليست مطالبات إلغاء نظام الطائفية السياسية في لبنان جديدة. رددها سياسيون ونشطاء في الحراك المدني كثيرون على مدى سنوات طويلة، لكنّ نسبة السياسيين المقتنعين بهذا الطرح محدودة للغاية، فضلاً عن أن الحراك المدني الذي يؤيد هذا الأمر ليس له تأثير كبير في المجتمع اللبناني الذي تُهيمن عليه الأحزاب السياسية القوية، وحتى الضعيفة. ينطوي الاعتقاد أن هذا الطرح بات مطلب غالبية الشارع المنتفض على تقديرٍ مُبالغ فيه، حيث إن التطور المجتمعي نحو الدولة الوطنية في بلدٍ، مثل لبنان، يحتاج سنواتٍ، وربما عقودا، من النضال المجتمعي والسياسي، ولا يُمكن أن يبرز فجأة.
على سبيل المثال، يطالب الشارع المسيحي الذي يُشارك في الانتفاضة برحيل الحكومة، لكنّه لا 
يؤيد استقالة الرئيس ميشال عون، لأنه يعتقد أن المسّ بموقع الرئاسة الأولى في الشارع ينطوي على مخاطر كبيرة على مستقبل المسيحية السياسية في البلاد. ينسحب الأمر نفسه على الشارع السني الذي يُعتبر الأكثر مشاركةً في الانتفاضة لأسباب عديدة، في مقدمها أن سُنّة لبنان يُشكلون غالبية الفقراء، كما أنهم ممتعضون على نحو كبير من أداء رئيس الوزراء سعد الحريري. وقد برز هذا الامتعاض في الانتخابات البرلمانية في مايو/ أيار 2018، عندما خسر الحريري مقاعد برلمانية عديدة، لكنّهم لن يرضوا بتغييرٍ يقتصر على الحريري. ولا يبدو الشارع الشيعي أيضاً مشاركاً بزخم واسع في الانتفاضة، على غرار الطوائف الأخرى، على الرغم من أن شيعة لبنان من الطبقة الأشد فقراً كما السّنة، لكنّ سطوة الثنائية الشيعية، حزب الله وحركة أمل، على هذا الشارع، تجعل من الصعب عليه التفكير في التمرّد على هذه الثنائية، فضلاً عن أن تأثير اللبنانيين الشيعية بمشروع حزب الله تحديدا يجعلهم بعيدين عن الحالة اللبنانية. ولو طرحتَ على هؤلاء تحوّلا سياسيا نحو دولة وطنية عابرة للطوائف، فإنهم سيُفكرون ألف مرة قبل القبول به، لأنه سيفرض بالضرورة معالجة مسألة سلاح حزب الله الذي يتمسّك به غالبية الشيعة.
ينسحب التناقض في الحالة المجتمعية اللبنانية أيضاً على الحالة السياسية، فللأزمة الراهنة أبعاد 
سياسية عديدة داخل هذه الطبقة السياسية الحاكمة. العوامل المشتركة التي تجمعها أقل بكثير من العوامل التي يُمكن أن تفرّقها. تجمعها تسوية سياسية استفادت منها الأحزاب السياسية البارزة، فهي أوصلت الرئيس ميشال عون إلى الرئاسة، وضمنت للحريري البقاء في رئاسة الحكومة، وأتاحت لحزب الله لعب دور المؤثر الأكبر في صناعة القرار السياسي اللبناني. استفادت أطراف أخرى غير بارزة من التسوية، لكنّها تُظهر امتعاضاً منها في بعض الأحيان، لأنها لم تحصل على الحصة التي تتطلع إليها في الحكم.
العوامل التي تُفرّق أطراف السلطة كثيرة، وأوّلها قضية الإصلاح الاقتصادي. حزب الله أكثر الأطراف الداعمة لهذا الإصلاح، لكنّه يصطدم بمعارضة أطراف أخرى، ترى في أي إصلاح حقيقي خطراً على نفوذها الاقتصادي والمالي داخل الدولة. يريد كل طرفٍ من هذه السلطة الإصلاح، لكنّه يرفض أن يصل هذا الإصلاح إلى نفوذه داخل الدولة. هناك بُعد سياسي هام في الأزمة يتمثل في الصراع المسيحي المسيحي على الرئاسة، بعد انتهاء ولاية عون. يطمح الوزير جبران باسيل، وهو صهر الرئيس، إلى خلافته، لكنّ أطرافا مسيحيةً أخرى تتطلع إلى هذا المنصب. ويعكس انسحاب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من التسوية هذا الصراع.
ولا يمكن التقليل من أهمية الاستقرار السياسي والأمني الذي جلبته هذه التسوية، لكنها عاجزة عن إحداث إصلاح حقيقي، بالنظر إلى تضارب المصالح بين أطرافها. المستفيد الأول من هذه التسوية هو حزب الله الذي له الكلمة العليا فيها، ثم الوزير باسيل الذي أتاحت له خوض معركة الرئاسة مبكّرا، ثم الحريري. انطلاقاً من هذه التناقضات المعقدة داخل الشارع والسلطة، تتّجه الأمور إلى مزيد من التعقيد، ولكنّ الحلول ليست منعدمة. الفراغ في السلطة خطير، ولا يُمكن 
الاستهانة بعواقبه، لكنّ بقاء الوضع السياسي على ما هو عليه أخطر، وسيؤدي إلى شلل في الدولة. استقالة الحريري وإعادة تشكيل حكومة بنهج المحاصصة السياسية نفسه لا يعني تغييراً ولن يُرضي الشارع.
فقدت التسوية شرعيتها الشعبية، والخيار الأفضل هو الذهاب نحو تشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة، تُشرف على تنفيذ خطة إصلاحات اقتصادية واسعة، وإجراء انتخابات مبكرة. على الانتفاضة تأطير مطالبها بهذا الاتجاه كي تنجح. هل الطبقة السياسية مستعدّة للذهاب نحو انتخابات؟ قال الحريري إنه لا يُمانع، وعون لم يتطرّق إلى الموضوع أساساً، لكنّ حزب الله رفض هذا الخيار. ومن طرح الانتخابات المبكرة، فهو على الأرجح طرحها لرفع العتب عن نفسه أمام الشارع، لأنه يُدرك جيداً أن حزب الله سيُعرقلها. الكل يناور الآن في لعبة تبادل أدوار متقنة، للحفاظ على الوضع الراهن، ولكن هذه المناورة لا تناسب الجميع، وتستنزف شعبيتهم في شارعهم، كعون والحريري. التعويل على أن الانتفاضة موجة غضب وستزول تقدير خاطئ. مزاج الشارع يتغير.