تونس ومصر.. قصة نموذجين

تونس ومصر.. قصة نموذجين

29 أكتوبر 2019
+ الخط -
أثار انتصار قيس سعيد الساحق في الانتخابات الرئاسية التونسية أخيرا تمنيات بأن يحدث مثله في مصر أيضاً، بمعنى إسقاط الانقلاب ووصول مرشح للثورة إلى الرئاسة، مع مقارناتٍ متعدّدة طبعاً بين حالتي تونس ومصر. ومع مرور عقد تقريباً على اندلاع الثورتين في البلدين، بتنا أمام نموذجين مختلفين، بعدما كان النموذج واحدا في نهاية العام 2010. 
كان النظام السياسي رئاسيا مدنيا في البلدين، على الرغم من الخلفيتين، العسكرية للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك والأمنية للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. وكان ثمّة حرية وتعددية سياسية حزبية، ولو مقيدة، وحريات إعلامية ونقابية مقبولة بشكل عام، مع دستور متشابه في نظام رئاسيٍّ يعطي صلاحيات واسعة جداً للرئيس الذي تحكّم تقريباً بكل السلطات، مع الاستقلال النسبي للسلطة القضائية، خصوصا في مصر، إضافة إلى انفتاح عام مصري تونسي على الغرب والعالم، وتصوير النظام حتى كأنه ديمقراطي فعلاً، من أجل جلب المساعدات والاستثمارات الخارجية.
استمر التشابه مع اندلاع الثورات الجماهيرية السلمية في مصر وتونس بفارق زمني بسيط. ولم يعمد النظامان إلى استخدام القوة الغاشمة ضد المتظاهرين، على الرغم من محاولات عنيفة دموية، ولكن محدودة، لإجهاض الثورة، بالتوازي مع مساعٍ سياسية وخطابات استجدائية وتغييرات حكومية لإرضاء المتظاهرين. كان التشابه حاضراً أيضاً في المدة القصيرة للثورتين، 
أيام قليلة، كما في النتيجة النهائية، وهروب بن علي إلى خارج تونس، وتنحّي مبارك ومغادرته القاهرة إلى شرم الشيخ، وليس السعودية أو أي بلد عربي آخر، على الرغم من عدة عروض لاستضافته.
استمر النموذج الثوري السلمي المصري - التونسي نفسه سنتين ونصف السنة تقريباً، وتضمن مرحلة انتقالية، شهدت انتخابات رئاسية وتشريعية في البلدين، أدت إلى وصول مرشح الثورة منصف المرزوقي إلى قصر قرطاج في تونس منتخباً من المجلس التأسيسي المنتخب، ووصول محمد مرسي إلى قصر الرئاسة، ولكن بعد دورة ثانية لانتخابات تنافسية حادّة، وتحالف عريض من قوى الثورة المختلفة حوله، ما سهل له الوصول إلى الرئاسة بفارق ضئيل جداً.
بدأ الافتراق بين الحالتين، والتحول إلى نموذجين مختلفين، صيف العام 2013، إلا أن بدايات الافتراق برزت قبل ذلك نظرياً وسياسياً، مع الإصرار التونسي على معادلة الدستور الجامع، والقانون الانتخابي التوافقي والعصري أيضاً، قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية المعادلة التي كانت حاسمة في إبقاء عربة التحول على السكة الصحيحة، بينما وقع "الإخوان المسلمون" مبكّراً جداً في فخ العسكر واستعجال الوصول إلى السلطة، بقبولهم معادلة الانتخابات قبل الدستور، ما كان أحد عوامل خروج عربة التحول الديمقراطي عن السكة الدستورية المؤسساتية الصحيحة، بل تحطمها، وحتى تشظيها للأسف.
إضافة إلى معادلة الدستور قبل الانتخابات، تصرفت حركة النهضة (الإسلامية) بحكمة شديدة في لحظة تاريخية حاسمة مع التباين، بل الانسداد السياسي الداخلي (في العام 2013)، بموازاة طغيان موجة الثورة المضادة العربية، مع نجاحها أساساً بفعل أخطاء "الإخوان" في مصر، فقدّرت "النهضة" أن إنقاذ الثورة وإبقاء عربة التحول على السكة الصحيحة يقتضي انسحابها من رئاسة الحكومة (وحقائبها السيادية)، وهي الخطوة المفصلية الحاسمة التي لخصها الشيخ راشد الغنوشي، بجملته الشهيرة والبليغة: "نخرج من الحكومة لكن نبقى في الحكم".
استوعبت حركة النهضة في تونس جيداً طبيعة المرحلة الانتقالية وتعقيداتها، وحقيقة أن التيار الإسلامي لا يمتلك أغلبية للحكم منفرداً، أو التحكّم بكل الرئاسات الثلاث، ناهيك طبعاً عن التأثر المنطقي بالأجواء المحيطة في مصر والعالم العربي بشكل عام. أما في مصر نفسها، فقد تعاطي "الإخوان" للأسف مع الأحداث بشكل مختلف، بمزيج من السذاجة، وقصر النظر وضيق الأفق، إضافة إلى شهوة (أو استسهال) الوصول إلى السلطة، والبقاء فيها بأي ثمن. وبعد القبول بمعادلة الانتخابات قبل الدستور التي أدت إلى الاعوجاج في الحياة السياسية الحزبية، وشوّهت المرحلة الانتقالية برمتها، جرى سلق الدستور الأحادي، ثم الإعلان الدستوري الكارثي في ديسمبر/ كانون الأول 2012، وأخيراً رفض كل المبادرات 
والوساطات لحل الأزمة المستحكمة منذ نهاية 2012 حتى منتصف 2013.
كانت الفرصة متاحة أمام "الإخوان المسلمين" للبقاء في النموذج نفسه مع تونس، من خلال الخروج من الحكومة، والبقاء في الحكم. هذا لم يحدث، فخرجت العربة عن السكّة، وباتت الفرصة مهيأة تماماً أمام الانقلاب العسكري في ظل الانقسام والاستقطاب الحاد في الساحة السياسية. وقد نصح الغنوشي نفسه "الإخوان" بقبول فكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة في يونيو/ حزيران 2013، وفق معادلة رابح رابح، أي الفوز والبقاء في الرئاسة أو الخسارة والخروج من الباب الوطني العريض، مع بقاء عربة الانتقال الديمقراطي على السكّة الدستورية السياسية الصحيحة. وقبل ذلك، أي في ربيع العام نفسه، كانت المعادلة فقط بالنسبة للإخوان الخروج من الحكومة، والبقاء ليس فقط في الحكم، بل في الرئاسة أيضاً.
قال المعارض البارز محمد البرادعي في مقابلة حوارية استعادية مع تلفزيون العربي، في يناير/ كانون الثاني 2017، إنه لو تمت تلبية مطالب جهة الإنقاذ العادلة المنطقية الثلاثة في ربيع 2013، تعديل الدستور والتوافق على قانون انتخابي وتشكيل حكومة من شخصيات وطنية مستقلة، لربما بقي محمد مرسي، رحمه الله، في الرئاسة حتى نهاية فترته الدستورية.
بنظرة إلى الوراء، أدّت حكمة النهضة وتضحيتها مباشرة إلى المشهد، بل العرس الديمقراطي 
في تونس مع فوز قيس سعيد الساحق، قبل أيام، في الانتخابات الرئاسية، وفوز "النهضة" نفسها بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، والعبارة الصحيحة التي تقال في تركيا إنه لولا الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان ما كان أردوغان، أي لولا تضحيته في فبراير/ شباط 1997، واستقالته من رئاسة الوزراء، وعدم الصدام مع العسكر، لما وصل الرئيس رجب طيب أردوغان وتركيا إلى ما وصلا اليه. ويمكن تحديث الحالة تونسياً أيضاً، فلولا النهضة، ما كان قيس سعيد، وربما كانت تونس لتذهب في اتجاه النموذج المصري، وربما الليبي أيضاً.
تحطّمت عربة التحول الديمقراطي في مصر، وهو بلد تعداد سكانه مائة مليون نسمة، وجاء التحطم مدوياً مع انقلاب عسكري أعاد البلاد عقودا إلى الوراء، وحطم الحياة السياسية بموازاة فشل ذريع على كل المستويات، اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. ومع تشظّي الساحة وعجز الطبقة السياسية وانقسامها، حتى في الخارج، بات الخيار، أو الاحتمال الوحيد، هو الانفجار الاقتصادي، والاجتماعي والأمني أيضاً.
إذا ما حصلت العودة يوماً في مصر، فإنها ستكون إلى مرحلة انتقالية، كالتي عاشها البلد في العام 2011. ولا شيء يدل على تعقيد المشهد المصري وصعوبة التغيير فيه، أقله في المدى المنظور، مثل قصة نصف الممثل ونصف المقاول، محمد علي، والالتفاف اليائس حولها، إضافة إلى عدم انتظار الحواضر العربية الكبرى التغيير في مصر ومسارعتها إلى الثورة، بعدما كانت تاريخياً الأكثر تأثراً بما يجري في المحروسة، كما نرى في السودان والجزائر، وحتى الجارة ليبيا نفسها التي سارت في اتجاه مناقض لاتجاه مصر في عهد عبد الفتاح السيسي وانقلابه.