أزمتا اقتصاد وثقة بالحكم اللبناني

أزمتا اقتصاد وثقة بالحكم اللبناني

29 أكتوبر 2019
+ الخط -
لم يعد في لبنان دولارات، وهناك تسريباتٌ عن تحويلات (تهريب) أخيرا من المصارف إلى الخارج، وأن أكثر من 350 مليار دولار منهوبةٌ من الثروة اللبنانية في البنوك الأجنبية، وليس هناك مشاريع تنموية منذ عقود، وكبار رجال السلطة ينهبون ولا يشبعون؛ ولأن الخزينة فَرَغَت، والنهب والفساد لا يتوقفان، والبلد يكاد يسقط في الإفلاس العام، كان لا بد من ضرائب جديدة على الفقراء. جاء فرض ضرائب جديدة، ورفع تسعيرة "واتس اب" ليفجرا الوضع بكليته، حيث تردّت أوضاع أغلبية الطبقة الوسطى والفقراء بشكل كبير. الوضع هذا كارثي بامتياز، فـ"الديون 90 مليار دولار، والبطالة تتجاوز الـ 35%". ولهذا، رُفع شعار إسقاط النظام، والإسقاط لم يستثنِ أحداً، وشمل الرموز "المقدّسة" بقوة السلاح، أي حزب الله، فقيل "كلن يعني كلن". لبنان بذلك يفجّر ثورة شعبية عمّت كل مدنه، وضمت ملايين المتظاهرين، ومن الأعمار كافة، وطُرحت فيها كل المظلوميات والحقوق المغتصبة، قديمها وجديدها، وأولها استعادة الأملاك البحرية من سيطرة أمراء حرب الثمانينيات عليها، ومن دون أية تعويضات.
يُجمع المحلّلون أنها ثورة غير مسبوقة، وتجاوزت القيد الطائفي، وخرجت ضد زعماء الطوائف، حيث الشعب أزال قيده من عقله وشعوره وخوفه من الآخر، ووعى أن كل اللبنانيين ومن مختلف الطوائف، وضمناً أعضاء الأحزاب الطائفية، جميعهم مفقرون، مهمشون، مذَلون، ومُقادون من ستة زعماء. الأخيرون هم السلطة الفعلية، وليس مجلس الوزراء ولا مجلس النواب ولا رئاسة الجمهورية، على الرغم من أن ثلاثة منهم في هذه المناصب! لبنان بذلك، وعلى الرغم من تظاهراته السابقة، ومن أجل قضايا محدّدة، يفجر ثورة ضد السلطة بأكملها، ويسعى إلى تحقيق حلم اللبنانيين بدولة العدالة الاجتماعية، الدولة المدنية، دولة المحاسبة والقضاء واستقلال السلطات.
أهمية الثورة اللبنانية، وقبلها الاحتجاجات في العراق، أنها أوضحت، للشعب وللمثقفين وللعالم العربي، أن الأحزاب الطائفية فاسدة وناهبة، وهي غطاء سياسي لسرقة أفراد محددين حقوق الشعب. وبالتالي لا تعبر تلك الأحزاب عن الشعب، ولا عن الدين واختلاف الطوائف، ولا عن هموم الناس. النظام الطائفي قديم في لبنان وجديد في العراق، أي بعد الاحتلالين، الأميركي 
والإيراني، لهذا البلد، وقد عُمّم عربياً أن ذلك النظام يعبر عن روح الشعب، وبديل عن النظام الاستبدادي. إسقاطه شعبياً، هذه المرة، يوضح أن النظام الاستبدادي مرفوض، وكذلك الطائفي، وكذلك كل شكل للحكم غير ديموقراطي وعلماني، ولا يستند إلى مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان وتنزيه الدين وعدم تسييسه. لبنان يُقدّم خلاصة نظرية وسياسية للفكر العربي وللشعب، مفادها بأن النظام الطائفي يطيّف المجتمعات، وهو نظام حرب أهلية مستترة في السلم، ومعلنة في أثناء الثورات، ووظيفته نهب المجتمعات العربية وتتبيعها للخارج؛ الثورة أعادت إنتاج لبنان شعبا ووطنا وهوية لكل اللبنانيين، وهي من أهداف الثورة في البلاد العربية.
جاءت الثورة في سياق تأزمٍ شعبي شديد، وقد استفادت من حرياتٍ أوليّة يسمح بها النظام الطائفي من قبل، حيث يتمأسس عبرها الشعب طوائف، تتعايش ولا تنصهر ضمن ذلك النظام. الحريات تلك مقنّنة ومخصصة لإحداث التطييف، وضد أي شكل من الانتقال إلى النظام العلماني الديموقراطي أو المحاسبة أو تشكيل هوية مجتمعية وطنية. وفي ذلك، يرفض لبنان ذلك القدر من الحريات والطائفية، ويسعى نحو ديموقراطيةٍ يتمثل فيها الجميع، وضد زعماء الطوائف وأحزابهم.
السؤال الآن، كيف سيتم تجاوز المعضلة أعلاه "كلن يعني كلن"، فهناك سلاحٌ عند حزب الله، ومصالح كبرى لزعماء الطوائف من جهة، وقبالة ذلك هناك الجيش والقوى الأمنية الهشّة. صحيح أن شعبية حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر تراجعت كثيراً، وشارك بعض أنصار تلك القوى في المظاهرات، ولكن هذه الشعبية ما زالت كبيرة، وهناك التحالف السلطوي 
بين كتلها! وما زال الوعي الطائفي متحكّماً، وتراجعه النسبي حالياً يتعلق بقوة الثورة الشعبية، والسؤال هنا: هل تستطيع الأخيرة المحافظة على زخمها المليوني، وهل سيتمكّن الجيش من الاستمرار في ضبط الأمن ومنع الفوضى التي جُرب إحداثها، وفشلت حتى الآن، وكذلك هل سيكتفي حزب الله برفض التظاهرات، أم سينزل إلى الشارع بمظاهرات ضخمة، ويُقسم الثورة. من الخطأ القول إن الوعي الطائفي انتهى، أو أن الأحزاب الطائفية تراجعت شعبيتها بشكل كبير. كما أن تضرّر حزبي القوات اللبنانية والكتائب، ونسبياً التقدمي الاشتراكي، وسواها، لا يعني أنهم ليسوا طائفيين، ولا يعني أنهم من أنصار الثورة الشعبية، وبرامجهم الاقتصادية لا تتجاوز ورقة رئيس الحكومة، سعد الحريري، "تقشف، وقف الهدر، وقف الفساد، خصخصة"، والتي هي إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد و"سيدر"، كما يقول فواز طرابلسي! الخلاف بين أحزاب النظام الطائفي يتعلق بالحصص، وربما بفساد أقل، سوى ذلك واعتبارهم من أنصار التغيير الوطني والثوري، هو تفكير رغبوي خاطئ جملة وتفصيلاً.
السؤال الآن: أين هي برامج التغيير ذاك، وأين قيادات الثورة، وهل في مقدورها، وخلال وقت قصير، منافسة قوى النظام الطائفي؟ ليست القضية بسيطة على الإطلاق، والشعب الآن يثور بقوة الأكثرية في الشارع، وبسرعة السيطرة على ساحات المدن، وبتفاهة ما استجابت له الحكومة من إصلاحات متأخرة وبارتباك السلطة بكليتها، ولكن ذلك لن يطول، قبل أن تعلن الأخيرة المواجهة، والتي يبدو أنها بدأت إرسال مجموعاتٍ لشتم قادة الطوائف والأديان، 
ومحاولة حرف الثورة نحو التطييف. هناك صحة للقول إن النظام الطائفي قويّ، وليس هشّاً، وهو قديم، ومرتبط بدول خارجية، شكلته تلك الدول، وبالتالي ليست المواجهة في لبنان ضد سلطة العهد وتحالف التيار الوطني الحر وحزب الله، بل وضد الدول التي شكلت النظام من قبل، وسنراها تُسرع إلى إنقاذها، وبمختلف الطرق.
الآن هناك أزمة ثقة عميقة بكل النظام، وتشكيك بكل رجالاته. ولهذا رفض الشعب الورقة الإصلاحية وتعديلات "التيار التقدّمي" لها، وأي تعديل جديد في الحكومة. تتناول الاقتراحات الثورية تشكيل حكومة مصغرة، ومن خارج الأحزاب الطائفية؛ أي هناك رغبة كبيرة بالتغيير الشامل. الشامل هذا يتطلب رؤية سياسية جديدة لكلية الوضع، وقيادة وطنية، وتنظيماً وتأطيراً لكل أنشطة الثورة، وفي كل القرى والبلدات والمدن، وبما ينتج وعياً سياسياً متقدّماً، ويتجاوز كل ما أنتجه النظام الطائفي في لبنان، وليس فقط تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله. لبنان أمام مهمة كبيرة، وفي حال تحقّق التغيير، فإنه سيؤثر على كل دول المنطقة، وليس فقط على بلدان الموجة الثانية من الثورات العربية، الجزائر، السودان، والعراق.