لبنان.. عندما يُسرق الوطن تستردّه الكرامة

لبنان.. عندما يُسرق الوطن تستردّه الكرامة

28 أكتوبر 2019
+ الخط -
لم تتأسّس المجتمعات الإنسانية، منذ بداية تشكّلها، على أساس فكرة التعاقد، أو العقد الاجتماعي، بل وُلدت بالفطرة، أو الحاجة، ونمت ثم تبلورت مع تطور المجتمعات وتعقّد الحياة، فصارت فكرة العقد الاجتماعي بنيانا يضمن الحاضر من أجل المستقبل. ولقد وصل إلى مراحل متطورة من النظم الاجتماعية السياسية، من أهم ملامحها تحرير السياسة، أو إخراجها من قبضة الاستبداد، من خلال تكريس نظام قائم على الحريات والحقوق، ومبدأ المواطنة، الذي يضمن المساواة بين الجميع من دون تمييز.
ولكن تاريخ منطقتنا العربية، أقله بعد حقب الاستعمار الحديث الذي نالت الدول العربية استقلالها عنه على التوالي في منتصف القرن الماضي وما بعد، يمدّنا بأدلة على أن واقع هذه الشعوب، أو مصيرها، كان مرهوناً لخيارين: إما أنظمة استبدادية تضمن الأمن والاستقرار، ولو على حساب الحقوق وتفشّي الفساد والمحسوبيات والقمع، أو الفتنة والحروب البينية بين مكونات المجتمع وانهيار السلطة والفوضى والنكوص إلى كيانات اجتماعية تحكمها نظم وأخلاقيات ما قبل الدولة، وهذا ما جرى ويجري في مناطق عديدة مما سمّي الربيع العربي.
ونحن نتابع الحراك الغاضب في الشارع اللبناني، ليس السوريون فقط، بل غالبية الشعوب العربية، نمسك قلوبنا بأيدينا من الخوف عليه، وعلى أي حراك في المنطقة، من أن يكون مصيره ومصير الدولة اللبنانية كمصير سورية التي أصبحت أمثولة في الخراب والقتل والتهجير والتدمير وانهيار الدولة والمجتمع والتدخل الأجنبي السافر.
انتفضت الشعوب العربية بالتتالي، ترفع مطالب الحرية والعدالة والكرامة وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، وإنهاء احتكار الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة للسلطة، ومحاربة الفساد ونهب الثروات الوطنية والتحكّم بالمجال العام وكمّ الأفواه وغيرها من المطالب التي تعتبر شرعية 
ومن حقوق الشعوب. ولكن الشعارات التي يطرحها الحراك اللبناني تختلف قليلاً عما طرحته بقية الحراكات في المنطقة، بسبب خصوصية النظام الحكومي في لبنان. تتلخص الشعارات العريضة بإسقاط النظام الطائفي، إلغاء الطائفية السياسية، تغيير قانون الانتخاب، رفض الأحزاب والتيارات القائمة، التركيز على الفساد وسرقة المال العام، ومطالبة السياسيين بالكشف عن حساباتهم وإرجاع المال العام إلى الشعب ومنعهم من السفر ريثما يقول القضاء كلمته. يريد الشعب استعادة المال المنهوب من دمه وجيوبه، كما عبّر كثيرون. وليست الحرب الأهلية بعيدة في الذاكرة والتاريخ، الحرب التي سُفكت فيها الدماء اللبنانية في حرب أهلية دموية، انتهت باتفاق الطائف الذي مرت في 22 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري ذكراه الثلاثون. الاتفاق الذي كرّس المحاصصة الطائفية، ولم يضع جدولاً زمنيًا لتنفيذ بعض بنوده. ولكن الشعب اللبناني الذي اكتوى ثلاثين عامًا من بعد الاتفاق بالوعود الوهمية والواقع الجحيمي لم يعد يثق بأي وعد، حتى الذي قطعه رئيس الحكومة، سعد الحريري، في كلمته، أن تكون هناك إصلاحات، إنما يحتاج 72 ساعة، لم يقبل به المتظاهرون.
قد تكون حرّيتا الرأي والتعبير تمتلكان مساحة أوسع في لبنان، وربما التقييد عليهما تمارسه الأحزاب والتيارات التقليدية المتنفذة، ولكن المشهد الذي يبدو عليه الحراك أن التابوات كلها قد كسرت، لم تعد هناك رموز فوق النقد الذي يصل إلى حد التجريح والنعت. سقطت القدسية عن رموز النظام كله، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة إلى رئيس مجلس النواب إلى زعماء الأحزاب والتيارات. حراك يرفض الواقع بالمطلق، يتطلع إلى قلبه رأسًا على عقب، ويطالب بدولة المواطنة والتمثيل الحقيقي بأن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة، يمثل الشعب الأعضاء المنتخبون بحرية وبإرادة الشعب، بعيدًا عن التمثيل القائم على المحاصصة الطائفية. حراك يقول: لا نريد أحزابًا، الأحزاب هي التي أوصلتنا إلى هنا. يصرخ أحد المتظاهرين 
"لازم يتحرك الشعب، الانتفاضة لازم تستمر. الجميع يتكلم بأنه نزل باسمه وليس مدفوعًا من قبل أي حزب أو جماعة أو تنظيم". وتصرخ صبية "نحن أولاد ثورة، ربينا بمجتمع أخدنا لمحل هو العبودية، نحن ما بنقبل العبودية، الشعب وعي". حراك شعبي يبدو بلا قيادات، ولكن كل فرد فيه قادر على أن يعبّر عن معاناته ومطالبه بصراحة ووضوح وإصرار.
هل يكفي أن يعي الشعب واقعه ويدرك ذاته حتى يحقق أهداف حراكه؟ هي بداية مهمّة بالتأكيد، فبدون وعي الواقع لا يمكن الانتفاض عليه، لكن لا يمكن ألاّ نمسك قلوبنا بأيدينا قلقًا وخوفًا، خصوصا أن الطابور الخامس أو "المندسّين" بحسب الكلمة المحبّبة إلى الأنظمة التي استعملها حتى الرئيس الفرنسي، ماكرون، في بدايات حراك السترات الصفراء، بدأت أصابعه تتغلغل بين المتظاهرين، هؤلاء المندسّون يرمون إلى خطف الحراك، وفتح بوابات الجحيم والتدخل الخارجي.
اختطف الحراك اللبناني الأنظار بعيدًا عن الحالة السورية، خصوصاً منطقة الجزيرة السورية بعد الغزو التركي، وما يرسم لمستقبل مصيرها من خطط سياسية، بينما القصف والعمليات الحربية تهجّر مئات الآلاف من ساكنيها، ولا يكترث العالم إلا إلى احتمال أن تكون هناك موجة لجوء جديدة تهدّد استقراره كما يدّعي. هل سيُترك هذا الحراك يسير باتجاه أهدافه من دون 
إرادة دولية؟ فلننظر إلى كل الحراكات في المنطقة، كيف دفع مصيرها، وبعضها ما زال يدفع وفق الإرادة الدولية.
الحياة بما هي احتمالية، بمعنى أنها يمكن الإمساك بها وترويضها بما يرضي طموح الإنسان، فإنها بحد ذاتها مطلب الشعوب، بنموذجها المرتجى، النموذج الذي يمنح الفرد البشري الشعور بإنسانيته وكرامته. الكرامة التي يبدو أن حكام المنطقة العربية وأنظمتها لا يرضون بأن يعترفوا بها حقاً أول في قائمة الحقوق بالنسبة لشعوبهم.
الكرامة التي لخصها أحد المتظاهرين المفترشين شوارع المدن اللبنانية بتعبير غاية في بساطته بليغ في تعبيره: "لازم السياسيين يفهموا أن مشكلتنا ليست "واتساب"، مشكلاتنا أكبر وأعمق بكثير، وذلك بعد أن تراجع وزير الاتصالات عن قرار فرض الرسوم على "واتساب" وباقي وسائط الاتصالات المشابهة". وكان الجمع حوله يردد بصوت واحد "حرامية.. حرامية". كما كانت الأصوات تبحّ والصدور تضيق بغصّاتها، وأصحابها ينفثون قهرهم وظلمهم وانتهاك حياتهم وكرامتهم، لماذا على شعوبنا أن يكونوا كالأيتام على موائد اللئام؟