الترجمة تشيخ.. عن عودة "الغريب"

الترجمة تشيخ.. عن عودة "الغريب"

28 أكتوبر 2019
+ الخط -
إذا كانت وجودية جان بول سارتر وجودية التزام، فإن وجودية ألبير كامو وجودية عبث ولاجدوى، لا فرق فيها بين الحياة والموت. وعلى الرغم من أن سارتر علل رفضه (في 1960) نيلَ جائزة نوبل بأنه لا يريد أن يُدفَن حياً، ولا الارتباط بأي مؤسسة، ولو كان اسمها "نوبل"، وهو المعروف بانتقاده الحادّ لكل المؤسسات، فإن قسماً من الصحافة الأدبية الفرنسية كان له رأي آخر في دوافعه. وذهب هؤلاء إلى أن سبب رفض سارتر الجائزة أنّ ألبير كامو الذي كان وجوديا "تابعاً" لسارتر فاز بها قبله بثلاث سنوات. 
أخيرا، صدرت ترجمة جديدة لـ"الغريب"، الرواية المتحَفية القصيرة، ذات الموضوع العميق التي استطاع كامو أن يعبّر فيها، في قالبٍ من التشويق والتصعيد، عن أفكاره الوجودية، خصوصا في جانبها العبثي. روايةٌ تُقرأ من جديد كل مرة وتعاد ترجمتها؛ فالترجمة تشيخ، كما قال والتر بنيامين يوما، ولا يضرّ أن تُعاد ترجمة بعض الكتب مرارا. وقد أنجز الترجمة الجديدة المغربي محمد آيت حنا، بعد أن قرأناها قبل عقود بترجمات عايدة مطرجي، ومحمد غطاس، وآخرين.
وإذا كان كافكا قد استهلّ رواية "المسخ" ببداية صادمة: "استيقظ غريغور سامسا من أحلامه المزعجة، صباح يوم ما، ليجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة عملاقة"، فإن بداية رواية "الغريب" لا تقلّ صدما وإدهاشا، بعبارة "اليوم ماتت أمي أو ربما ماتت بالأمس، لست أدري"..
وكان ماركيز يقول إن أصعب جملةٍ على الإطلاق هي جملة البداية، والتي لا يجب فقط أن تكون مدهشة، وإنما يجب أن تكون سليمةً كليا من الأخطاء، لأنها مقياس أي عقد يُبرمه الكاتب مع قارئه، إن كان سيُكمل معه المشوار الطويل في القراءة والعيش في العوالم، أم أنه سيُعرِض عن ذلك، ويترك الكتاب من الوهلة الأولى. وفي هذا السياق، قال الكاتب الروسي إيفان بونين إن الرواية الجيدة تبدأ عادة بجملةٍ حقيقية. وفي ذلك دلالة على ما للحقيقة، أو الإيهام بها، من مفعولٍ في جذب القارئ إلى عوالم الرواية.
شابّ يجلس أمام تابوت أمه، ويرفض أن يفتح التابوت ليراها، بل بدل ذلك تستبدّ به رغبة في التدخين. إنه العبث في أقصى تجلياته، وتبلّد المشاعر تجاه من يُفترض أن يكون أغلى إنسانٍ في الوجود، وهي الأمّ. .. في هذه الرواية، أراد كامو أن يعبّر عن تحوّلات العصر اللاأخلاقية، وعن تبلّد العواطف الذي يكتسح العالم؛ تبلد يمكن أن يشمل، كذلك، حتى الغرائز الفطرية في الإنسان، ومن أهمها عاطفته تجاه والديه.
يقول ميرسو، بطل الرواية، في أحد المقاطع "لماذا نبكي؟! كلنا سنموت، عاجلا أم آجلا". وبكل برودة أعصاب، يقتل العربي، خصم صديقه رايمون، ودافعه إلى هذه الجريمة أن الشمس أزعجته!.. ويتواصل العبث في أوضح تجلياته على امتداد صفحات الرواية التي قابلها بعضهم بالاستهجان والاستنكار. وفي لحظة إعدامه، كان ميرسو يتمنّى أن يودّعه جمع غفير بصرخات حقد، بدل البكاء والنحيب.
وكأني بألبير كامو، وهو يجعل روايته هذه قصيرةً ومكثَّفةً ومكتوبةً بلغة واضحة، يقدّم الفلسفة الوجودية في جانبها العبثي، بكل تعقيداتها، في قالبٍ روائيّ حكائي، وهي العوامل التي أهّلت "الغريب" لأن تترجَم مرّات ومرات إلى مختلف لغات العالم، كما أهّلت كاتبها لأن ينال جائزة نوبل للآداب
تركّز الرواية، عبر تفاصيلها وأحداثها ووصفها، على فكرة واحدة، مفادها أنّ الموت والحياة سيان، لا فرق بينهما. هذه هي الفكرة المركزية في الرواية لأي قارئ متفحّص، فالبطل يقابل موت أمه بلامبالاة مستفزّة، كما يقترف فعل القتل بلامبلاة أيضا، فبعد أن ينتهي من توديع أمه، والذي كان خاليا من أية مشاعر، يذهب للقاء ماريا ويمضيان الوقت سويا، ويشاهدان فيلما كوميديا، ترتفع خلال مشاهدته ضحكات ميرسو الهستيرية. ثم تتوالى الأحداث، ويتوقف الوصف تقريبا، لتمتلئ الرواية بالحوارات والتصاعد الميلودرامي الذي ينتهي بجريمة قتلٍ عبثية، ثم عقوبة الإعدام التي يقابلها البطل باستهتار غريب.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي