مُثقّف في وضعيةِ انتظار

مُثقّف في وضعيةِ انتظار

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
كنّا، قبل أسابيع، مع حدثين فريدين عربيًا في الوقت الرّاهن، لمّا أُعلن عن اعتقال الرّوائية المصرية، أمينة عبد الله، ثم كاتب مصري آخر؛ وكانت موجات التّضامن قويّة من الكتّاب العرب، أكثر مما يحدث مع معتقلين آخرين، وهو أمر قد يكون له جانب جيد، بما أنّ الشّخصيات المعروفة، أو التي تعمل في مجالٍ يسلّط عليه الضوء، تجعل القضية أكثر إثارة للاهتمام. 
ولكن من الجانب الآخر، بشكل ما، ظهر كأنّ القبض على كُتّاب أمر جديد يختلف عن اعتقال أي مواطن آخر، كأنّ الكاتب ليس جزءًا من مجتمعه يشارك في كل ما يصيبه، ويحدث فيه. مع العلم أنّه في تاريخ الثورات والاحتجاجات التي عرفها العالم الحديث كان الكُتاب في مقدمة الحدث، وأوّل من يُعتقل. وفي ثورة 1968 في فرنسا وقف المثقّفون مع الطلبة، بشكل يتجاوز البيانات إلى المشاركة الفعلية، أو عبر أعمال أدبية وفنية خالدة.
في أميركا اللاتينية، وعبر قراءة سِير شعراء وكتّاب كبار، نجد النّضال السياسي في صميم سيرهم الذاتية، عاشوا الشّعر والأدب في الشّوارع، والسّجون، قبل أن يكتبوه على الورق. كان زمنًا مختلفًا، لكنّه شبيه بما نعيشه الآن. وصلت هذه المجتمعات إلى الدّيموقراطية، بينما نحن نعيش مخاضاتها المتعسّرة عبر ثوراتٍ عربية، تتلمّس طريقها.
لم الكُتاب هناك أكثر اندماجًا في نضال الشّعوب من أجل الديموقراطية؟ لأنّ الكاتب في تلك 
المجتمعات كان المحرّك الأساسي لأيّ تغيير سياسي، أو اجتماعي، أو ثقافي، وبشكل ما اقتصادي، مع أن الكاتب بالطبع فقير، ولا يملك مالًا يُغيّر، لكنّ الفكر الاقتصادي والنّظريات الاقتصادية التي تُغيّر اقتصاديات الدول الكبرى لم يأت بها رجال أعمال، أو أصحاب المال، إنّما المفكرون، أمثال ماركس وجون سميث، وجون مينارد كينز، واضع النّظرية الاقتصادية التي احتاجها الليبراليون الاجتماعيون في بريطانيا.
حتى النيوليبرالية سّيئة السُّمعة التي أدّت إجراءاتها إلى احتقان اجتماعي غير مسبوق، أدّى في النّهاية إلى خروج الفئات الأكثر فقرًا إلى الشارع، لإعلان سخطها ورفضها الصّمت تحت ضربات النيوليبرالية، حتى هذه كانت من صنع مفكرين، حيث ظهر مُصطلح النيوليبرالية، للمرّة الأولى، في مُلتقى والتر ليبمان الثقافي الذي دعا إليه الفيلسوف الفرنسي، لويس روجيه، في باريس عام 1938 على يد اثنين من المُنظرين، والفلاسفة السّياسيين المنفيين من النمسا؛ لودڨيج ڨون ميزس وفريدريتش هايك، اللذين رأيا في الديمقراطية الاشتراكية حلًا لكل المشكلات الاقتصادية.
في المغرب، زمن سنوات الرّصاص، كان الكُتّاب والشّعراء في مقدمة النّضال السياسي، من أجل الدّيموقراطية، مثل الشّاعر والرّوائي عبد اللطيف اللّعبي الذي قضى سنوات في السّجن، وما زال يعلن عن آرائه المعارضة. وموقفه في حراك الحسيمة كان واضحًا. وشاعر آخر كبير هو عبد الله زريقة، كان يكتب ويناضل من أجل القيم التي آمن بها، بشكل أكثر انخراطاً مما يحدث الآن في أي حراك في المغرب.
وفي الثّورات العربية، ومعظم موجات الرّبيع العربي، نجد حضورًا محتشمًا للكتاب أو المفكرين أو الشّعراء. بالكاد نشاهد خروجًا إعلاميًا يُعلّق على الأحداث، ويقف إلى جانب المتظاهرين ولو بالرّأي، لأحد من الكتاب الكبار الذين لهم صدى، وشعبية، ماعدا قلة قليلة أعلنت صراحة انخراطها في الثورات. بل إذا لم يقف بعضهم إلى جانب الأنظمة القامعة لشعوبها، فذلك حسن جدًا؛ مع رفع القبعة لما سجّله الكتاب والفنانون اللبنانيون في المظاهرات الحالية في لبنان.
قد يخاف الكاتب السّجن، والكلّ لا يرغب في ولوجه، لكن رفض الامتيازات قد يكون طريقةً، ولو محتشمة، في المواجهة، رفضُ المناصب غير المستحّقة، وغير المبنية إلّا على قبول الصّمت، بمجاورة السّلطة وعسل مناصبها وسفرياتها وأنشطتها، بدل من قطران المواقف التي لا تؤدّي إلا إلى موت بطيء على الهامش، وهو أمر حاشا أن يقبل به كاتبٌ يسعى إلى المجد، ولا يجد غير ترضياتٍ قصيرة الأمد، تغنيه عن الحفر في ألمه الإنساني المفترض، ويشتري الرّخيص بالغالي، ضاربًا عرض الحائط بتعب الإبداع غير المربح، في سبيل العوائد الممكنة.
"المقاومة تكون بالصّمود أحيانًا وبالرّحيل أحيانًا أخرى، لتكون كلمة الفصل للمبادئ والحق".. 
بهذه الكلمات، أنهت وزيرة العدل الفرنسية، كريستيان توبيرا، علاقاتها بالحكومة الفرنسية، بعد أن تقدمت باستقالتها في العام 2016، احتجاجًا منها على مشروع قانون قدّمته الحكومة ينص على إسقاط الجنسية الفرنسية عن الذين يثبت تورّطهم في أعمال إرهابية. إنّه موقف أخلاقي، لا يمكن أن تربط اسمك بما لا تؤمن به، وما يتحقق بالكلام يتحقق بالرحيل عن دائرة السّلطة، وملحقاتها.
مأزق المثقف الذي فضل أن يكون اللّاموقف موقفه الأساسي، حين يحاول اتخاذ موقف، أنّه لا يُؤخذ بجدّية، ولا حتى يستطيع تحريك نقاش عمومي حول قضية، ولا يتبنّاها حتى وهو يوقّع على بيانٍ بشأنها، لا يشير له في صفحته في "فيسبوك"، ولا يدلي بدلو أو ملعقة في النّقاش. كأنّهُ يحاول إبقاء علاقة طيبة مفترضة مع الجميع، معارفه الحاليين والمستقبليين، إنّه لا يريد أن يخسر خيرًا قادمًا من جهة، أو أخرى. ولا يريد بالتّأكيد أن يفارق حلم منصبٍ قد يحمله رنين هاتفي، قد ينتهي العمر، ولا يأتي؛ لأنّ هناك من يسبق الرّنين إلى طرق أبواب المنصب ونوافذه، بالأيدي والأرجل.
يمكن أن نواصل الحديث عن "موت المثقّف العربي"، بوصفه شخصية معنوية موجودة على السّاحة، ولها مواقف، وتأثير على الأحداث، بعد أن أثير الحديث طويلًا عن غيابه في خضم الأحداث السياسية التي عرفتها الدول العربية، في السّنوات الأخيرة، وتأخّره في مواكبة الحراك الشّعبي. وبعد بروز حجم الصّراعات التي سقط فيها مثقفون عرب في مواقف عديدة، وتحوّلت الثقافة عند بعضهم إلى وسيلة استرزاق رسمية، يُمكن أن نعلن وقوعه الأخير على الأرض كجدار مشقوق، وآيل منذ عقود للسّقوط.
هناك المثقف السّياسي الذي "تحوّل من شخص طوباوي يكرّس نفسه في سبيل تحقيق الهدف، الذي يؤمن به إلى استبدال المثال بالواقع والحلم بالامتياز، واليوتوبيا بالمكاسب، وذلك بموازاة مع عملية الاندماج التّدريجي، في دواليب التّجربة السياسية والديمقراطية الجديدة". حسب المفكّر المغربي محمد سبيلا. والمثقّف الذي كان يصف المثقف الرّسمي بأنه كلب حراسة، ليكتشف أنّه هو نفسه كلب حراسة للمؤسّسة الحزبية التي ينتمي إليها. ولم يكن سوى الوجه الآخر للمثقّف المخزني (مثقف السّلطة)، قبل أن ينشأ مثقف آخر سماه سبيلا "المثقف النقدي، يضع نفسه خارج القوالب الفكرية والإيديولوجية الجاهزة، ولا يملك سوى عقله النّقدي التساؤلي الذي يرفعه في وجه الواقع". وهو، لا شك، لن يقع في أي حال في وضعية المثقّف في وضعية انتظار عطف السّلطة وعطاياها.

دلالات

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج