لم يعتبر "أولو الأذناب"

لم يعتبر "أولو الأذناب"

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
خرج الربيع من فصله، ولن يعود إليه، واكتسب الحكم الدرجة القطعية. هذا ما أثبته أسبوعان عربيان ساخنان في كل من تونس ولبنان، فهل اعتبر "أولو الأذناب"؟
أراهن أن "أولي الأذناب" لن يفهموا رسالة الربيع العربي التي ظنّوا أنهم أحرقوها في القاهرة وصنعاء وطرابلس الغرب، بفضل أموالهم القذرة ودسائسهم الكريهة، غير أن الربيع أبى إلا أن يتمرّد مجدداً على حصاره الذي زجّوه به داخل فصله المعتاد، ليحتلّ، هذه المرّة، خريف الطغاة برمّته، وليبرهن أن الزمن لا يعود إلى الوراء إلا على ساعاتهم فقط.
صحيحٌ أن "ربيع الأول" ضلّ طريقه، لأنه كان أبرأ من أن يفرّق بين حقل الورد وحقل الألغام الذي دفعه إليه طغاة الخريف الذين يقاومون سقوطهم الأخير حتى آخر ورقة حنظل، غير أن "ربيع الثاني" جاء مختلفاً هذه المرّة، بعد أن استوعب الدرس القاسي جيداً، وأدرك أن بقاءه محصوراً داخل فصله يعني منح الخريف فصلاً آخر في عمر الانكفاء العربيّ الطويل.
في تونس، أول الثورة، كان على الربيع أن يعود؛ لإنقاذ ياسمينه، بعد أن لاح خطرٌ محدِقٌ بانحراف ثورته عن مسارها، فأعاد تأهيلها وصوّب المسار، بانتخاباتٍ حرّة ديمقراطية لم يألفها العالم العربي، طوال تاريخه المطعون بسيف الحجّاج ونسله، فأزهر الياسمين ثانية، وأنبت رئيساً عربيّاً لا يزال يؤمن بأن "التطبيع مع إسرائيل خيانة عظمى"، على الضدّ من رؤساء آخرين يعتبرونها "وطنيّة عظمى". وما كان لهذا الفرز أن يحدُث، لولا الحرية التي تمتّعت بها الأيدي الواثقة التي تحمل أوراق الاقتراع إلى صناديقها، لا الأيدي التي ترتجف وهي تمسح بساطير طغاتها.
وفي لبنان، كان على الربيع أن يبزغ، لينقذ الأرز المحترق بالفساد قبل اللهب، وليخلّص العباد من عسكرة الأحزاب التي تقتسم البلاد، وتحوّلها إلى مناطق نفوذ خاصة بها، وليبعث رسالة واضحة إلى تلك الأحزاب، أن الشعب لم يعد يؤمن بأي سياسيّ يطرح آراءه ومعتقداته بالبندقية، وبأيّ حزبٍ ليس بين أعضائه غير المليشيات. وفي هذا أيضاً، تنتصر الحرية على فوهات البنادق ومافيات النهب التي أوصلت لبنان إلى مشارف انهيار اقتصاديّ مطبق.
وفي الفصل المقابل، ترتعد أوصال طغاة الخريف، وهم يرون إخفاقهم بإجهاض الربيع العربيّ، بعد أن ظنّوا أنهم أتقنوا إحكام طوق دسائسهم عليه، فباغتتهم قدرة هذا الفصل على تجديد ذاته، وإعادة حساباته، والاستفادة من رصيد خبراته المعمّدة بأفدح الأثمان: بالدم الذي لم يجفّ بعد في شوارع القاهرة، وبالدمار والحروب الأهلية مدفوعة الثمن في اليمن، وبالعبث الأحمق في مصائر الليبيين وثورتهم. وهم معذورون، لأنهم كانوا يحيكون الدسائس خلف براميل نفطهم التي ظنوا أنها كفيلةٌ بحلّ سائر معضلاتهم، كما حلّت معضلتهم "التحتيّة" سابقاً، غير أن أزمتهم مع الحرية التي يحاربونها بالفتن والأدوات الرخيصة من عبيد المال كانت أعظم هذه المرة من كل "حساباتهم"، ومن سائر أرصدتهم الفلكية.
والغريب أن طغاة الخريف العربيّ، في أبو ظبي والرياض، لا تعنيهم الرابطة القومية إلا عند اندلاع التظاهرات الشعبية المطالبة بالعدل والحريات في الدول "الشقيقة". قبل ذلك ليس يعنيهم إن وصل خطّ الفقر في تلك البلدان إلى ما فوق رؤوس الشعب وقاماتهم. عندها فقط تصبح تلك العواصم معنيّة بما يحدث لدى "الأشقاء"، ليس على قاعدة الإنقاذ والمساعدة في حلّ معضلات الفقر والبطالة والاستثمار، بل لوأد تلك الحراكات وإجهاضها. وفي غمضة عينٍ، تتحوّل تلك العواصم من التنقيب عن النفط إلى التنقيب عن الدسائس والفتن، لقطع الطريق على مسيرة الحرية في البلدان العربية المنتفضة على أنظمتها. وغالباً ما ينجح هذا التنقيب، حين يُكتشَف جنرالات على استعداد للعب أقذر الأدوار في بلدانهم، كعبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر. غير أنه نجاح مؤقت، كما برهن الأسبوعان الساخنان في تونس وبيروت، وكما سيبرهن "ربيع الثاني" حين يشمل عواصم أخرى قريباً. عندها سيزهر ربيعنا ونرتفع، وسيحلّ خريفهم ويسقطون.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.