في لبنان ثورة

في لبنان ثورة

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
ثورة جديدة من لبنان، هذه المرّة، يبدي المتظاهرون فيها حرصاً زائداً على أنْ تشكِّل السلمية كرنفالية جميلة مع ألوان زاهية كثيرة تصبغ المظاهرات، ووجود ملفت وكثيف للعنصر النسائي، ما يمنح الحشود مشهداً حضارياً أنيقاً.. تسمع الموسيقا في شوارع لبنان وساحات مدنه، ويجري توزيع الورود والحلويات والقبلات أيضاً، ويُرفع علم وحيد هو علم الدولة اللبنانية، بما يوحي أن الحشود هي كتلة واحدة منسجمة. يمكن بسهولة مشاهدة آلاف المتظاهرين يصطفون بانضباط تام، أو يدبكون على الأنغام الشعبية، فيما يقف الجنود يراقبون المشهد باحترام كبير، وقد ينخرط أحدهم بنوبة بكاء انفعالي حاد. تدعم هذا التحرّك كل قطاعات المجتمع الثقافية والفنية، فيبدو لبنان كله يختلج بموجة متناغمة عذبة، ينضم إليها بعض رجالات السياسة الذين يظهرون دعماً مطلقاً وتفهماً عميقاً، ومن بينهم وزراء ونواب وقادة أحزاب وتجمعات ونقابات.
في لبنان مشكلة سياسية، وأخرى اقتصادية، السياسية تم توارثها منذ أن حمل الجنرال غورو، أول مندوب سامي فرنسي في سورية ولبنان، مشروعَه الطائفي بيده الخشبية، وقرّر أن يقسم مستعمرة شرق المتوسط إلى أقاليم صغيرة ذات عناوين مذهبية، كان نصيب لبنان الكبير مجموعة طوائفية متنوعة، أُحكم عليها الخناق لاحقاً بمجموعة من الأعراف التي أصبحت، بعد التداول المستمر أكثر قوة من الدستور، وانغرست بعمق في أرواح ممثلي الطوائف، وأصبح من العسير التنازل عنها. رئيس جمهورية لبنان مسيحي ماروني، ورئيس الحكومة مسلم سني، ورئيس مجلس النواب شيعي، لا يوجد في الدستور اللبناني أثر لهذه القاعدة، ولكن تلاميذ المدارس يدركون أنها موجودة، ومن غير المسموح التخلي عنها. وعن هذه القاعدة العرفية نشأت المشكلة السياسية الكبرى التي أوقعت لبنان في تناقضاتٍ سياسية، وخاض الشعب اللبناني، بتدخلٍ من الجيران، حرباً أهلية دامية، خرج منها وقد تكرّس واقعه السياسي الطوائفي إلى جانب اقتصاد دولة محطم. عاش لبنان بعد الحرب هذه الهموم، تحت الوصاية السورية التي لم تحاول المس بـ"مقدساته" الطائفية، بل كان همها اللعب على تناقضاته، لتطيل أمد الوصاية التي انتهت عام 2005، وكان دم رفيق الحريري ثمناً لهذه النهاية. لم تستطع السياسة في لبنان استيعاب التغيرات الديمغرافية الكبيرة إلا بحلولٍ طائفية، ولم يتم طبعاً تجاوز عرف ديانات الرؤساء، وكان للجوار تأثير حاسم في هذه النتيجة، وبالتحديد سورية والسعودية، ثم ورثت إيران هذا الملف عن السوريين، فتجاوزت اللعبة محيطها العربي.
الاستقطاب الطائفي والاقتصاد المتهالك بعد الحرب الأهلية دفع كثيرين من أبناء لبنان إلى الهجرة بعيداً عن خرائب الأبنية والمدن المحطمة، تدهور اقتصاد الدولة فموّل خزائنه بمزيدٍ من الاقتراض، وارتفع الدين العام إلى مستوياتٍ خانقة، وهربت الاستثمارات الخارجية، فقد كان لبنان مسرحاً لمواجهتين كبيرتين مع إسرائيل، ومواجهاتٍ لا تحصى بين أطراف المعادلة السياسية الطائفية ذاتها.
كان جمود الطبقة السياسية التي احتفظت بقوة بقشرتها الطائفية عاملاً أساسياً في عجز الاقتصاد، فلم تستطع هذه الطبقة تقديم حلول خاصة، وورَّثت مشكلاتها ومبادئها إلى الجيل التالي، وقد هرم كل من شهد الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات، وفي مناخ طوائفي تحميه السياسة، كهذا، كان لا بد أن تنمو طبقة فاسدة عريضة، من دون أن تتمكّن الأجهزة الرقابية الخاضعة لسلطة الطوائف أن تقترب منها، على الرغم من أنها تعمل في العلن وبكل وضوح، فتقهقر الحال حتى وصلنا إلى لحظة الانفجار الراهنة، فأصبح الشارع هو الحل الوحيد والأخير، ولكن هذا الشارع الصارخ بقوة وأحقية معرضٌ للاختراق، بوجود هامش كبير لأحزابٍ تقتات على الطائفية المكرّسة بحكم الواقع، والمدعومة من الخارج، إلى جانب أطرافٍ أخرى ستتبرع بالتصدّي للشارع، وتقوم بدور قوى القمع، لتحوّل هذه الثورة الزاهية إلى تمترسٍ جديدٍ حول الخندق الطائفي الذي قامت هذه الثورة في الأصل للتخلص منه.