سورية.. فشل "الإدارة الذاتية" مشروعاً جمعياً

سورية.. فشل "الإدارة الذاتية" مشروعاً جمعياً

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
تقتضي معرفة شعبٍ ما في لحظة معينة من حاضره معرفة بنيته وماضيه، والتأثيرات التي خضع لها، والأفعال التي قام بها، رداً على الضغوط التي تعرّض لها. وإلى ذلك، فإن مؤسساتٍ يتم إيجادها، مع غياب ثقافة الانتماء لها، لن تعمّر طويلاً؛ لأن المحرّض النفسي الذي قاد إلى ولادتها لم يكن نقلةً باتجاه التقدّم، وإنما رداً على ظروفٍ سياسية مُعينة. ومن ذلك أن "الإدارة الذاتية" التي أقامها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في مناطق في شمال سورية زرعت مفاعيل كابحة أمام أيّ تطلعاتٍ خارج إطار سلطتها، وأصبحت كأنها روادع اجتماعية تكبح الجمهور والشعب. وأوجدت جمهوراً خاصا بها، يحمل مفهوما عن نبالة هذه الجهة وألوهيتها، من دون أن يكون تطبيق شعاراتها عن الحرية والمساواة والديمقراطية والإخوة الحقيقية. وكانت بذلك أسوأ فكرة على المزاج العام والجانب النفسي القادم. 
حملت "الإدارة الذاتية" وحزبها الحاكم من الليونة الشكلية ما فضحت صلابتها التي تجاوزت حدودها، وأوصلتها إلى حافة الهاوية، حتى أصبحت فيه الليونة مستحيلة، ففقدت التكيف مع التغيرات الناتجة عن تغير موازين القوى، فالقضية تتمحور حول الشراكة السياسية وحرية العمل السياسي، ونوعية العراقيل المفروضة أمام الغير، منتمين إلى مشاريع تخص "الاتحاد الديمقراطي" وحده. ومع استمرار الضربات ضد القاعدة المجتمعية، فإن الروح الموروثة لن يكون في وسعها التكيف مع التغيرات المنشودة الناتجة عن سياسة الفرض والسطوة.
لأن روحها تتصلب نتيجة الاضطرابات والضغوط العميقة والقرارات المجحفة بحقها ومعيشتها، تندفع الشعوب نحو تمزيق الحدود المؤطرة لها، رافضة التكيف مع تحولات الوسط الجديدة، عدا عن أن الثبات لا يكتسب إلا ببطء شديد وتاريخ أي عرق أو قومية، هو حكاية جهوده الطويلة لترسيخ روحه، كما يشاء لا كما يُطلب.
عجز الإدارة الحالية عن قيادة المجتمع الكُردي، وباقي المجتمعات في "المنطقة الكُردية"، دفعها نحو إيجاد مجتمع جديد، قوامه إلغاء المجتمع القديم عبر الإتيان بذهنيات جديدة. ولكن شروط 
العيش الجديدة التي فرضته، وسعت إلى فرضها، أحدثت هاجس التكيف البشري مع الوسط الجديد. وتصلب روح الشعوب يؤدي إلى ارتداداتٍ، أقلها عدم الاكتراث بمصير جهةٍ عبّرت بغلو عن فائض القوة التي تمتلكه، وكأن الشعب أصحاب عقلياتٍ جاءت من فضاء أو كوكبً آخر، في حين أن أكثر ما كانوا في حاجة إليه هو بناء روح وطنية جامعة، خصوصا وأن اللوحة المجتمعية والشعبية تتجه صوب مزيدٍ من التمزّق، مع غياب حامل مفاتيح الوحدة الوطنية كُردياً، وهو المصطلح الأكثر تغييباً.
عدم فاعلية وجدوى التعويل على الفئات المنضمة للإدارة، بقصد العمل وتجنب شبح الفقر، شرحت تماما جوهرهم التقليدي والمحافظ، لكنها، في الوقت نفسه، توصف (تلك الفئات) بالنواة الصلبة لأي بلد، مُستقر، تحفظ استمراره وتصنع قوته. وهي فئةٌ طيعة؛ نتيجة خوفها، فتنقاد بسرعة إلى تنفيذ الأوامر، بيد أن الضغط العام، والميل نحو الاستقرار، يتغلبان سريعاً، وتعيد بتلك الفئات إلى طبيعتها الأصلية، وسرعان ما ستجد نفسها غير ملزمةٍ بالدفاع عن غيرها، بمجرّد توفر بدايات أشكال الفوضى، خصوصا الفئات غير المنسجمة قوميا ولغويا مع بعضهم بعضا، كما أنها لا تمتلك تصوراتٍ سياسية رفيعة المستوى، أو شديدة التعقيد.
عوّلت الإدارة على أن الشعب سيتحول جُثة هامدة لن يُقاوم، ولن يُفكر بكلمة لا، لكنه تعويلٌ سقيم، فسابقاً كانت المفاعيل الكابحة لأي تمرد شعبي كُردي معتمدة على القوانين والروادع الاجتماعية، والتأطير الذي نجحت به الحكومات السورية، وكبحت الجمهور والرافضين، لكنها كُلها اليوم أخذت تتآكل، فالحرية المنشودة بعد ثماني سنوات، وتغير نمطية تفكير الجيل الجديد، والسعي نحو كسر القوالب، ورفض اللون والسياسة الواحدة باتت تكبر رويدا رويداً، كتعبير شعبي عام، خصوصا وأن ثمّة مُحرّضات تُثير الشارع وتحرّكه، بعد تفجير "السوشيال ميديا" للثورات في عموم الدول العربية. وفي حالة استمرار هذه الإدارة بهذه العقلية، فإن التغيرات ستضرب عمق المجتمع الكُردي، خصوصا وأن العنصرين الأساسيين لتفجير الأحداث /الأفكار، الجماهير/ موجودة، وإن كان العنصران الآخران، الجيش وصناع القرار، محصورين في طرف واحد فقط، إلا أن تراكم الغُبن والاحتقان سيُرجح كفّة الأول على الثاني.
اضطرت الإدارة الذاتية لتقديم أشكال وتغيرات وتبدلات، لكنها مؤلفة من عناصر غير مرئية، لا
 تطاولها التغيرات إطلاقاً، وتشكل سلطةً خفيةً تنحني أمامها جميع السلطات الأخرى. والتمعن في سيرورة عمل الإدارة خلال أربعة أعوام يفيد بأنها لا تُغير إلا بعض الواجهات، الأمر الذي أثر مباشرة على التوجهات والرؤية الشعبية، فالتصدعات والتحولات التي طرأت على عموم حياة المواطن في المنطقة دفعته إلى عدم تقبل وجود منظمة إدارية من دون أنظمة راسخة، ومن دون تقاليد ثابتة، أي من دون روح وطنية وطيدة، ومن دون بناء شعبي سليم.
لقد أحدثت رؤية المنطقة بعين العسكرة والحرب على "داعش"، والمزيد من القرابين والشهداء، والاستفراد بالقيادة، اضطرابات مستترة تنتظر لحظة إعلانها، وستجد المنطقة نفسها غارقةً في الفوضى. ومع إغفال جدّية الاهتمام بالمجالات الصناعية والاقتصادية والسياسية منذ بدايات تشكيل الإدارة الذاتية، اتجهت رغبات جهوية نحو وصف المنطقة بأنها مستقرة. ولكن وقائع الحياة اليومية الصغيرة، وكمية الهموم الكبيرة التي أغفل الحديث عنها، هي المحكومة بردّات قاهرة لا تحتمل الانتظار، ويشكل مجموعها الحبكة الحقيقية لحياة الشعب.
كان القاسم المشترك بين أغلب الحكومات المنهارة ولا يزال غياب الحكمة والحزم ضد الفساد، وإطلاق يد الأمن والعسكرة الاجتماعية. وليس بالضرورة أن تكون مظاهر العنف أو الإلغاء
 مرتبطةً مباشرةً بقطاعات شعبية واسعة، فالتدليل على مظاهره المجتمعية، وتعامله مع الفرقاء السياسيين، كفيلان بتشكيل قناعة راسخة لدى الغالبية بأن لا مستقبل ينتظرهم مغايرا لما كان في العقود التي خلت، فالحكومات تهلك بسبب ضعفها، فما أن تُمسّ حتى تسقط. والإدارة فتية، لكنها ولدت هرمة، ولعل مقولة "لا أحد يسقط الحكومات لكنها تنتحر" قد تبدو صحيحةً على نحو مماثل لغرور الإدارة التي رفضت المصالحة مع أي أحد حتى اللحظات الأخيرة.
الواقع الهش للإدارة الذاتية، وارتفاع مؤشّر الرفض الشعبي لقراراتها، وخصوصا ما يمسّ جوهر (وعمق) حياة الأهالي ومعيشتهم ومستقبل أبنائهم، ورفض وجودهم في أيَّ محفل دولي، يُلزم الإدارة بقبول أي شراكة قادمة، ويجبرها على ذلك، بعيداً عن شروطها ومزاجها الحاد. في الطرف المُقابل، يحمل المجلس الوطني الكُردي من الهموم ما يدفعه إلى قبول الشراكة، وطلبها في بعض النواحي، خصوصا وأن لسان حاله الدائم: إن حزب الاتحاد الديمقراطي مقصى ومُلغى، ومُبعد من أيَّ حسابات سياسية دولية، وإنه (المجلس) يصرّ على خصوصية وحقوق قومية، ما يعني أنه مُلزم أكثر من البقية بإيجاد توازناتٍ لحماية ما تبقى من شرق الفرات بعد سقوط رأس العين، واحتمالية سيطرة دمشق على عين العرب (كوباني) ومنبج، من أيّ تدخل عسكري قد ينسف الخصوصية القومية، أو التخفيف من حدّية مصير "المنطقة الكردية" في سورية ومجهوليتها، وهذه بحاجة إلى شرح أكثر.