في الانقسام بشأن العملية التركية

في الانقسام بشأن العملية التركية

26 أكتوبر 2019
+ الخط -
كما يحدث بشأن أي حدث جلل، ينقسم جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك المهتمون بالشأن العام، إلى معسكرين متناحرين. كانت العملية العسكرية التركية في شمال سورية محور النقاش أخيرا، القوميون العرب والناصريون والدولجية (أنصار السلطة أيّا كانت) ومعهم كارهو الثورات العربية، يتباكون على سيادة الدولة السورية ويشجبون الاحتلال التركي لشمال سورية، يتذكّرون القومية العربية، ويتحدثون عن المؤامرات الغربية - التركية لتقسيم الوطن العربي، ويشبهونها بأنها "سايكس بيكو" الثانية لتقسيم الأمة العربية. 
وفي الوقت نفسه، كان فريق يدافع بشراسة عن العملية التركية، أغلبهم من جماعة الإخوان المسلمين، يدافعون عن حق التدخل التركي في سورية، بهدف حماية أمنها القومي، أو بهدف الدفاع عن الإسلام، أو أن التدخل التركي ليس اعتداء، بل هو لإيقاف المؤامرات الكردية أو مؤامرات نظام بشار الأسد، أو أنه ضرورة من أجل الأمة لوقف المؤامرات الإيرانية والروسية.
كان هناك فريق يتلقى اللعنات من الجانبين كالعادة، هو الذي كان يعتبر التدخل التركي استعماريا، لا يختلف كثيرا عن التدخلات، الإيراني والروسي والأميركي، وأن من الممكن إدانة العدوان التركي بمقدار إدانة عدوان إيران وروسيا والولايات المتحدة وتدخلاتهم قبل ذلك، وأن التدخل التركي ليس بالضرورة مؤامرة غربية على المنطقة، كما يروج أنصار نظرية المؤامرة، بل هو دفاع تركيا عن مصالحها ونفوذها، كما فعلت من قبل إيران وروسيا والولايات المتحدة.
في العلاقات بين الدول، هناك ما تطلق عليها نسبية القيم، خاصية أساسية من خصائص العلاقات الدولية، بجانب أن كل دولة تدّعي أن الخير لمواطنيها وللبشرية هو تحقيق مصالحها، وهذا هو 
الهدف الأسمى للدولة، فالعلاقات الدولية لا تعرف الأخلاقيات. ولذلك، هناك تعريفات عديدة للخير والشر فيما يخص العلاقات الدولية، وهناك تعريفات عديدة للإرهاب، وتعريفات عديدة لما يطلق عليها المصلحة العليا للدولة، وذلك طبقا لوضع كل دولة وتاريخها وجغرافيتها وتحالفاتها، وطبيعة الطبقة الحاكمة والنظام الحاكم، فما يعتبره بعضهم إرهابا يعتبره آخرون مقاومة مشروعة ودفاعا شرعيا عن النفس، والعكس صحيح، فالولايات المتحدة والغرب لا يرون غير "الإرهاب الإسلامي" في الوقت الحالي، مثلما كان مصطلح الإرهاب يطلق على التنظيمات الشيوعية المسلحة التي تواجه المصالح الإمبريالية في أثناء الحرب الباردة وبعدها. أما ما تفعله إسرائيل من جرائم إبادة فتعتبرها الولايات المتحدة دفاعا شرعيا عن النفس ضد الإرهاب الفلسطيني الذى نعتبره نحن مقاومة ودفاعا عن الحقوق. أما إيران التي ارتكبت جرائم عديدة تحت شعارات دعم المقاومة فإن تعريف الإرهاب لديها هو كل ما يهدّد مصالحها التوسعية ومصالح أذرعها الرئيسية، حزب الله في لبنان مثلا وبشار الأسد في سورية، والحوثيون في اليمن يمثلون أذرع إيران، ويحققون مصالحها الجيوسياسية، ولا يمكن لإيران أن تتخلّى عنهم أو تسمح بسقوطهم.
وعند الجانبين، السعودي والإماراتي، الإرهاب الرئيسي هو القادم من إيران، وخصوصا ذراعها الحوثية في اليمن. ومن أجل مواجهة هذا التهديد الإيراني، ترتكب السعودية والإمارات مجازر عديدة، وانتهاكات في اليمن العربي، وفي حق الشعب اليمني، ولا مانع لديهما من التعاون مع إسرائيل، وتحسين العلاقات معها، من أجل الحماية من الخطر الإيراني، ولا عزاء لشعارات القومية والعروبة واعتبار إسرائيل العدو الأول والتاريخي للعرب.
وفي مصر، يعلم جميعنا أن تعريف الإرهاب لا يقتصر على التنظيمات الجهادية، بل يتعدّى كل فصائل الإسلام السياسي، ليتسع ويشمل كل من يعارض السلطة، وكل من لديه ملاحظات على السياسة العامة للحكومة، فتهمة الانضمام لجماعة إرهابية أصبحت الأشهر التي يتم بها حبس الجميع، لا فرق بين علماني وإسلامي، مسلم أو مسيحي، كهل أو شاب، مؤمن أو ملحد، رجل أو امرأة، بل حتى يتم حبس من كان على درجة كبيرة من معاداة جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي.
وبالنسبة للعملية العسكرية التركية "نبع السلام"، هناك أهداف معلنة، مثل إقامة منطقة آمنة لتوطين اللاجئين السوريين وحماية حدود تركيا من المليشيات الإرهابية، ولكن كتابات تحليلية تتحدث عن الأهداف الحقيقية لتلك العملية مثل مواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتقويض مساعي قيام دولة كردية في الشمال السوري، بالإضافة إلى توطين أغلبية عربية سورية من اللاجئين السابقين في تركيا، ما يحقق عدة فوائد، ويضمن وجود جالية سورية أقل عداء لتركيا، إن لم تكن ذات أغلبية موالية، بالإضافة إلى هدف آخر، أشار بعضهم إليه، وهو تقليل حدة المعارضة الداخلية للرئيس أردوغان، بعد المشكلات الاقتصادية أخيرا، باللعب على الحسّ القومي التركي، فعند الحرب يتم رفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
ولأن السياسة الدولية تخلو من الأخلاقيات، فإن في تلك الأهداف التركية مشكلات أخلاقية عديدة، قياسا على قيم حقوق الإنسان، فتغيير التركيبة الديمغرافية في مناطق معروفة بالأغلبية الكردية 
تاريخيا يتشابه كثيرا مع حروب الإبادة والتهجير التي كانت ترتكبها القوى الاستعمارية، بالإضافة إلى تقارير كثيرة، تتحدث بالفعل عن انتهاكات القوات التركية والقوات الموالية لها في المنطقة المراد السيطرة عليها. وهناك كتابات كثيرة تتوقع أن تسهم تلك الخطوة في زيادة التوتر في المنطقة، وزيادة تدخلات الأطراف الأخرى اللاعبة في المنطقة، بالإضافة إلى أن فكرة مساومة الغرب باستخدام ورقة منع تدفق اللاجئين إلى أوروبا، أو التهديد بفتح الحدود أمام موجات اللجوء لأوروبا يعتبر كذلك ابتزازا غير أخلاقي، يتشابه مع هذا الذي يستخدم ورقة محاربة الإرهاب من أجل حبس شعبه وقمعه.
مواقف الأنصار المؤيدين لسياسات وتحرّكات حكومة ما، أو الرافضين والمهاجمين تلك السياسات يتحرّكون كذلك بعيدا عن قيم موحدة أو معيار موحد للصواب والخطأ، فهناك من يؤيد ويعارض طبقا للانتماء الديني، أو الإثني، أو طبقا للانحياز الأيديولوجي، وربما القبلي، فلوحظ أن القوميين والناصريين وداعمي السلطوية يهاجمون العملية العسكرية التركية باعتبارها احتلالا، في حين تأييدهم أو تغاضيهم عن التدخلات الروسية والإيرانية، وهي التي أشد وطأة ووحشية وانتهازية، فروسيا تورّطت في مذابح مباشرة وغير مباشرة ضد الشعب السوري، وكذلك مليشيات الحشد الشعبي وباقي المليشيات المدعومة من إيران التي ارتكبت مذابح لا تقل قبحا ووحشية عما ارتكبه تنظيم داعش.
وكذلك يتغاضى أنصار السلطوية العربية عما يحدث في السنوات الأخيرة من تعاون شديد وتطبيع بين إسرائيل ودول عربية، مثل السعودية والإمارات والبحرين وسلطنة عُمان، كما يتجنب بعضهم المناقشة الجادة لفكرة تأسيس دولة كردية مستقلة في شمال الدولة السورية، ويحيل كل ما حدث ويحدث من صراعات إلى الغرب ونظريات المؤامرة. وكان بعض مؤيدي التدخل التركي وأنصاره يستخدمون الدعاية الدينية في دفاعهم، في محاولة للإيحاء بأن العملية التركية تهدف إلى نصرة الإسلام والمسلمين، متجاهلين حقيقة أن الأكراد هم أيضا مسلمون، ولهم دور تاريخي كبير كذلك في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، في حين أن كارهي التدخل التركي يسوقون نظريات المؤامرة والتخويف من "سايكس بيكو" ثانية.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017