سورية والمعرّي وعاصم الباشا

سورية والمعرّي وعاصم الباشا

25 أكتوبر 2019

المعرّي .. نحت عاصم الباشا

+ الخط -
أول ما تُحدّث نفسَك به، لمّا تنتهي من مشاهدة الفيلم الوثائقي "المعرّي.. فصل من سيرة الأمل"، على شاشة تلفزيون العربي، قبل أيام، أن ثمّة أخبارا سوريةً تبعث على المسرّة والغبطة، بين ما يتتابع من هذا البلد المذبوح عن نوائب ومحادل تمويتٍ وتهديمٍ مُؤسية. يُبدع النّحات السوري، العالمي حقا، عاصم الباشا، رأس أبي العلاء المعرّي، تمثالا ثقيلا، فارها، ناطقا، باذخا، من طينٍ يصير صلصالا ثم برونزا، يقدح شيئا من اللمعان. وذلك كلّه في شغلٍ كثير، فيه الدأبُ والأناة، الإلهامُ والحِرفة، المحسوسُ والخيال. احتاج هذا العمل إلى صبرٍ، إلى ثلاثة أطنانٍ من الطين، وإلى جهدٍ عضليٍّ. عاونت عاصم تلميذةٌ له تشكيلية إسبانية، رأت هذا الرأس غرنيكا سورية. وأيضا أصدقاء له سوريون (أحدهم الممثل جلال الطويل)، يعتنقون فكرة الحرية استحقاقا لشعبهم. اشتغلوا جميعُهم، لينتهي هذا الصنيع الفاتن منجزا سوريّا محضا، منذ كان فكرةً في مخّ الفنان، فارس الحلو، وطرَحها على صديقه عاصم الذي تجاوب معها فورا، لأن عنوانها أبو العلاء المعرّي، السوري العتيق الذي قطع سفهاءُ، في معرّة النعمان، رأس تمثاله، وهو الشاعر الفريد المزاج، الحائر الشكّاك، النقدي المتبرّم، والحادس الحاذق. اقترفوا فعلتهم تلك قبل أكثر من ست سنوات، ليُسهموا بنصيبهم في قتل العقل في سورية. وما صار هذا البلد في الذي عليه إلا بعد أن أقال غيرُ طرفٍ وجهةٍ فيه العقل من وظائفه. لم يكن فارس وعاصم، عندما انصرفا إلى المشروع، بعد تأمين كلفته من تبرّعات سوريين ولبنانيين، يحاربان أولئك فقط، وإنما أيضا يُشهران للعالَم البديهيّة المنسيّة، أن ثمّة قدرةً خلاقةً لدى السوريين، فنانين ومبدعين ومثقفين، وناشطين ومفكرين، وعُمّالا وحرفيين، وزرّاعا وصناعيين، ليس فقط على إنقاذ بلدهم من الجهالة والاستبداد، وإنما على منح الأرض مقادير من تنويرٍ شديد الإلحاح في راهن الجنون المعيش، رماه قبل أكثر من ألف عام، شاعرٌ أعمى، بصيرتُه عالية، اسمُه أبو العلاء، رأى أن "الحياة جهدٌ كلها، ومشقةٌ كلها، وعناء كلها"، على ما أوضح قرينُه طه حسين. 
وثّق فيلم "المعرّي.. "، من إنتاج "ميتافورا"، وإشراف أنس أزرق، وإعداد هاشم الزعوقي وإخراجه، كيف بنى عاصم الباشا رأس الشاعر الذي جهر بإمامة العقل ومركزيّته. تتابعت لقطاتٌ، بعضُها نابهٌ حقا، في الفيلم، تصوّر الشّغل نفسه في ورشةٍ في مشغلٍ في غرناطة، في مراحل منه، وصولا إلى سفر أبو العلاء إلى ساحةٍ في ملقا الإسبانية، ليُخبرنا متحدّثون في الفيلم بأنه سيعود إلى بلده سورية، عندما تتحقّق فيها العدالة. وإلى أن يصل إلى هناك، سيتوقف في باريس ربما. وفي الأثناء، حكى عاصم الباشا وجلال الطويل وفارس الحلو، عن ذلك كله، وتتالت مشاهد تهيئة الطين وضربِه على الهيكل المعدني المصمّم بعلو 325 سم، وصهر المعدن، وغير ذلك من العمل الدؤوب. وبين هذا كله وغيره، حضر على الشاشة، في الفيلم المتقن، حديثا بدر الدين عرودكي وفاروق مردم عن أبي العلاء، ومكانته وشعره وثقافته وكتبه ونصوصه، وكذا إشارة زياد ماجد إلى رمزية المعرّي السورية الراهنة. وكان من لطائف الفيلم أنه أخذ مشاهديه إلى دار أبي العلاء (وضريحه) في بلدته معرّة النعمان، وفضاءاته الأولى التي اعتزل فيها، بعد عودته من بغداد، ليجتمع مع تلاميذه، ويُملي مصنّفاته وأشعارَه. وقد وصل الفيلم مقاطعَه بأبياتٍ من شعر "رهين المحبسين"، اشتملت على ما يُلفت إلى مزاجِه، حانقا، متسائلا، حائرا، قلقا. ومعلومٌ أنه كان مضادّا للسلطة، لم ترُق له استكانة الناس لها، وأصابه يأسٌ من صلاحهم، على ما قال الروائي والباحث، عبد العزيز الموسى، من دار المعرّي نفسِها. وبانَ، في ما انتقاه الفيلم من أبيات، صاحبُها فيلسوفا في إهاب الشاعر، وهو الذي كان مضطربا في أمره أشدّ الاضطراب، على ما كتب عنه طه حسين الذي لا يزال يُحسب أهم دارسي المعرّي.
.. عملٌ تلفزيونيٌّ موفقٌ في مبناه، أظنّه نجح في مهمتين أرادهما: أن يحتفي بمُنجزٍ صنعه سوريون للسوريين، كما قالت الإسبانية، مار مارتين، عن رأس أبي العلاء عملا فنيا رائعا (بحسبها)، وعملا ثوريا، بحسب جلال الطويل. وأن ينطق، بكيفيةٍ ما، بحاجة سورية وأهلها إلى العقل والعدالة، وإلى معرفةٍ أوثق بالمعرّي، المجهول كما حسبه طه حسين وعبدالله العلايلي، وإلى ابتهاجٍ مستحقٍّ بفن عاصم الباشا.

دلالات

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".