القمع باسم الشعب الفلسطيني

القمع باسم الشعب الفلسطيني

25 أكتوبر 2019
+ الخط -
باسم الشعب العربي الفلسطيني، تقرّر محكمة صلح رام الله، وبناء على طلب النائب العام، حجب 59 موقعاً إلكترونياً، وتعلل المحكمة قرارها بأن "الجهة المستدعى ضدهم قد أقدمت على نشر عبارات وصور ومقالات من شأنها تهديد الأمن القومي والسلم الأهلي والإخلال بالنظام العام والآداب العامة وإثارة الرأي العام الفلسطيني". 
يثير قرار المحكمة، الصادر يوم الإثنين الماضي، أسئلةً كثيرة، من قبيل هل جميع الأحكام الصادرة عن السلطة القضائية في مناطق السلطة الفلسطينية تصدر باسم الشعب الفلسطيني، أم أن هذا الحكم خُصّ عن غيره بهذه الديباجة، كونه يتعلق بقضية تمسّ "الأمن القومي والسلم الأهلي والإخلال بالنظام العام والآداب العامة وإثارة الرأي العام الفلسطيني"، كما جاء في نص قرار المحكمة، أو أنه جاء بهذه الصيغة حتى لا تتحمّل وزره أي جهة، وبالتالي يتفرّق دم ضحاياه على الشعب الفلسطيني؟ والسؤال الآخر، لماذا يُستدعى اسم الشعب الفلسطيني في هذا الحكم، مع العلم أن الشعب الفلسطيني غُيب اسماً وجسماً منذ "إعلان الاستقلال"، عندما وقف الزعيم الراحل ياسر عرفات أمام المجلس الوطني الفلسطيني في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1988، وأعلن لآخر مرة، "باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". وما بين واقعة محكمة رام الله وإعلان الاستقلال، جرت مياه كثيرة تحت أقدام الشعب الفلسطيني، لم يُستدع فيها هذا الأخير إلا شاهداً أو شهيداً.
تدثّرت المحكمة باسم الشعب، لأنها تُدرك أن لا شرعية باقية إلا للشعب، بعد أن تآكلت شرعية القضاء، منذ حل الرئيس محمود عباس مجلس القضاء الأعلى العام الماضي، وصارت ساحات القضاء مستباحةً من الأجهزة الأمنية، وجُرّد قضاتها من أي حصانة، وارتهنت رتبهم ورواتبهم ومناصبهم بيد السلطة التنفيذية. ولا شرعية باقية إلا للشعب، بعد أن انهارت السلطة التشريعية مع حل الرئيس المجلس التشريعي في العام 2018. وحتى "شرعية" الرئيس لم تعد مقنعةً لأحد، وقد انتهت صلاحيتها منذ سنوات.
أما الأسئلة الأخرى فتتعلق بمضمون الحكم الصادر عن محكمة رام الله بحق مواقع إلكترونية عربية وفلسطينية، من دون أن تتضمن لائحة المنع أي موقع إسرائيلي، وكأن صفحات أفيخاي أدرعي، وإيدي كوهين، و"المنسق"، وحتى "إسرائيل تتكلم بالعربية" لا تشكل خطراً على الأمن القومي، ولا تهدّد السلم الأهلي. تدرك المحكمة أن خطر ما يبثه أدرعي من سموم ودعايات مُغرضة هو أخطر بكثير من نقد بنّاء ينشره موقع "عرب 48" الفلسطيني. وتعلم المحكمة أيضاً أن الشتائم التي يكيلها إيدي كوهين للسلطة الفلسطينية ورئيسها هي أبشع من أي نقد ينشره موقع "عربي 21". وتعلم المحكمة أن تقارير "متراس" أو "ميدان"، مهما انتقدت أو جرحت، فلن ترقى إلى كعب مواقع إسرائيلية تطفح على الجمهور الفلسطيني سُمّاً.
تغطّى قرار المحكمة باسم الشعب الفلسطيني، وتلَحّف بعباراتٍ مطاطةٍ فاقدةٍ أي معنى على أرض الواقع. عن أي "أمن قومي" تتحدّث محكمة رام الله، والأراضي الفلسطينية مُستباحة طولاً وعرضاً، ليلاً ونهاراً، تجوبها دوريات الجيش الإسرائيلي، وتعيث فرق المستعربين وقطعان المستوطنين فيها تقتيلاً وتخريباً. وهل كل ما تنشره المواقع المستهدفة بقرار محكمة رام الله هو أخطر على السلم الأهلي الفلسطيني من الانقسام الحاصل في الساحة الفلسطينية منذ ما يزيد عن 12 عاماً. أو كأن الكلمة المنشورة، مهما بلغت بلاغتها وحدّتها، ستقدر يوماً على تهديد السلم الأهلي، كما تفعل معاول الفساد والمحسوبية والتنسيق الأمني.
قرار محكمة رام الله الذي تدثرت ديباجته باسم الشعب الفلسطيني، وتغطّى متنه بثوبٍ بال، قوامه ذرائع حماية الأمن القومي والسلم الأهلي.. إلخ، جانَب العدالة، وخالفَ كل منطق، فلا الشعب الفلسطيني المناضل لأجل الحرية والتحرير يقبل زجّ اسمه في قضيةٍ تقمع الحريات الأساسية في التعبير، ولا الأمن القومي الفلسطيني يُحمى بحجب مواقع رأي، ولا السلم الأهلي يتحقق بتكميم الأفواه.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.