...وخرجنا هذه المرّة من غيبوبتنا الطائفية

...وخرجنا هذه المرّة من غيبوبتنا الطائفية

24 أكتوبر 2019
+ الخط -
كان الانفجار عفوياً في ليلته الأولى. تسلّلت إليه الطوائف بخبثٍ في اليوم التالي. ومعها حسابات حزبين يشتركان في الحكومة المطلوب استقالتها منذ اللحظة الأولى. حزبان لم ينالا غير القليل من رزقتهما، حزبا سمير جعجع ووليد جنبلاط. وبلغة "الكود" شبه المعلن للسياسة، كانت إشاراتٌ ضعيفةٌ وخجولةٌ هنا وهناك تدلّ على "الوفاء" للطائفة ولزعيمها. ولكن بسرعة فائقة، عصفت بهذه الإشارات المواقف التي اتّخذها تباعاً كل من السوبر وزير جبران باسيل، ورئيس الوزراء الوهمي سعد الحريري. الأول، باسيل، "يتفهّم" مشاركة حزبه في هذه التظاهرات، معتبراً أنها ليست "موجَّهة ضده"، علماً أنه يسيطر على الحكومة التي يطالب المتظاهرون باستقالتها.. متلبّساً شخصية الشاكي من شركائه في الوطن، رامياً العتَب والخطأ على غيره من المسؤولين. أما الثاني، الحريري، فلم يختلف، وإنْ بلهجة أقل وقاحة، كونه الحلقة الأضعف في الحكومة المطلوب استقالتها؛ فرمى، هو أيضاً، الحق على غيره، غارقاً في شرح "نواياه" الاقتصادية، غير مقتنعٍ هو نفسه بصوابيتها، مرحِّلاً الاستقالة المطلوبة إلى ما بعد مشاورات مع "الشركاء" أنفسهم. 
بعيْد هاتين الإطلالتَين، طغى الطبقي على الطائفي نهائياً. وأخذت هذه التظاهرات تتمدّد في كل لبنان، وتتوسع في العاصمة، فإجماع تام على أن الذي أخرج كل هؤلاء الناس إلى الشارع هو 
القهر الحياتي الاجتماعي؛ الضرائب، البطالة، الفساد، الإفقار المتواصل، الموت على أبواب المستشفيات.. وخرجت، ولأول مرة منذ دهر، لغةٌ واحدةٌ جمعت اللبنانيين؛ لأول مرة، التأكيد على وحدة الهمّ، على العبور بين الطوائف، على العلم اللبناني وحده.
وفي هذه الأثناء، كانت الطائفة الأكثر خطورةً في لبنان تمشي ببعض التردّد في الطريق نفسه. في الجنوب خصوصاً، معقل الثنائية الشيعية، كانت التظاهرات تأخذ سبيلَها إلى اختراق هذه الثنائية، تضرب في أحد طرفيها، أي حركة أمل، برمزها المكروه، رندة بري، عقيلة رئيسها، نبيه برّي. "تعاتب السيد حسن نصر الله"، ولا تتناوله أكثر من ذلك. ولكن حين خطب هذا الأخير في اليوم الثالث من التظاهرات، بعدما أشبع المتظاهرون الأوائل ضرباً في مدينة صور على يد زعران شريكته وحليفته، حركة أمل، خرجت التظاهرات الجنوبية والبقاعية عن بكرة أبيها، تردّ التحدّي الذي رماه نصر الله بوجهها، وإنْ لم تسمّه شخصياً.
ماذا قال نصر الله في كلمته هذه؟ وعلى ماذا ارتكز؟ مستقوياً بخروج الأميركيين من شمال سورية، متصوّراً أن خطته الإيرانية بالاستيلاء على لبنان قد أتمت كل موجباتها، جالساً خلف خريطة مناطق نفوذه باللون الأحمر، رافعاً سبابته، مندِّداً، ومعتقداً أنه حان وقت الإعلان عن الحقيقة.. كشفَ نصر الله عن السرّ المتداول، أنه هو حاكم لبنان. فأعلن أن الحكومة لن تستقيل، بالكاد سوف تعدَل. وقلّل من شأن المطالب المعيشية المرفوعة، حصرها باتصالات الواتسآب، متذاكياً، للمرة الألف، على مستمعيه؛ بأن الحق ليس عليه في فرض رسوم على المخابرات هذه، إنما على الوزير المحسوب على غيره. وإنه طول عمره في هذه الحكومة هو ضد الضرائب على الشعب، والتي تفرضها "الطبقة الحاكمة".. وإنه لم يوافق على قراراتها المجحفة بحق الشعب الفقير، علما أنه يسيطر عليها باعترافه للتو. أما مطلب الانتخابات المبكرة، فكان توقّعه الذي لا يخيب: إن انتخابات جديدة، سوف تفرز، كما التي سبقتها، النواب أنفسهم. ملمّحاً إلى ما أعلنه أحد نوابه ذات يوم، وبسرور بالغ، أمام السفير الياباني، أن الفرق بين انتخابات لبنان وانتخابات اليابان أن في الأولى النتائج معروفة سلفاً، وفي الثانية النتائج مفاجئة دائماً. ثم أمعنَ نصر الله في الاستفزاز، فعيّر المتظاهرين بأنهم سوف ينسحبون بعد أيام، لأنهم ليسوا مثله ومثل جمهوره، يبقى على التظاهر حتى تتحقّق المطالب، ملمحاً إلى الاعتصام الشهير لحزب الله وتوابعه عام 2006، والذي دام ثمانية أشهر، وخرّب نصف اقتصاد وسط البلد، وضربه من صميمه. ومن أجل ماذا؟ من أجل التشريع لسلطته وإعطائه المزيد من الحرية لسلاحه. ونسي في خضم مساجلته المتظاهرين أن يتهم "شيعة السفارة" بتنظيم هذه التظاهرات وتمويلها من السفارة الأميركية. والنسيان هذا هو النقطة المضيئة الوحيدة في خطابه؛ إذ لم يكرّر ما قاله المسؤولون، الإيرانيون والعراقيون، عن تظاهرات العراق الأخيرة، فكان الردّ صاعقاً عليه وعلى شركائه، الصغار منهم والكبار.
النقمة على الأوضاع الحياتية أُضيفت إلى نقمةٍ جديدةٍ بصراحتها؛ أن السلطة الفعلية في لبنان هي لحزب الله؛ السلطة التي يعلكها رجالات حزب الله يوميا، أنها سلطة خصومهم، هي في الواقع 
سلطة الحزب الذي كشف عنه الحجاب، وبإرادته. لا عون، ولا باسيل، ولا الحريري هم سلطة؛ إنما هوامشها. الأول مستقوياً بها، والثاني خاضعاً لها. الآن أصبح الموضوع علنياً. وعلى من يريد تغييرا أن يوجّه سهامه إلى المكان الصح، من دون إهمال هذه الهوامش، فكانت تظاهرات اليومين، الرابع والخامس، أكبر وأكبر، دخلت القرى والبلدات، وتحوّل الجنوب اللبناني، ومعه البقاع، إلى نقطةٍ بارزةٍ من نقاط الاحتجاج، فدخلت الطائفة الشيعية على خط بقية الطوائف، وتوحّدت مع اللبنانيين. تمرّد الشيعة على قيادتهم. وأعطوا المثل الأكثر حيويةً لمعنى الانتفاض على السلطة القاهرة. كانت المشكلة في البداية أن كل طائفة مربوطة بكرعوبها، تحتج على سياسة الطوائف الأخرى، من دون أن تنال من زعيمها، أو حاكمها، أو حزبها القائد. كانت الطوائف اللبنانية الأخرى السبّاقة في كسر هذا الاحتكار، وإن لم تقلّ عنها عصبية. وحدهم الدروز يملكون ذاك الترف، أو بالأحرى زعيمهم يتمتع به. فيما السنّة موزّعون، لأنهم ممتعضون من سياسة زعيمهم، الرخوة الناعسة، اللاهثة خلف ترميم ثروة صاحبها المبدّدة. الموارنة، أصحاب ثنائية أخرى، مثل الشيعة، ولكنها منقسمة انقساماً حاداً، بين التيار العوني والقوات اللبنانية بزعيمها سمير جعجع، وبقية الطوائف الأصغر، الموزّعة بين هذا القطب أو ذاك...
انتفاضة الخريف اللبناني المشْمس ستحلّ على التاريخ اللبناني بصفتها أنهت أوهام أكثر الطوائف 
اللبنانية ديناميكية، حول قيادتها: حركة أمل الأضعف في الحلقة فُضحت وأمام الشاشة بمليشياويتها، ناهيك بفسادها الخرافي، وحزب الله بصفته الآمر الناهي في لبنان. وأي معارضةٍ حقيقيةٍ سوف تنشأ من الآن فصاعداً، يساريةً كانت أو ليبرالية، أو أي صفةٍ أخرى، إذا لم تلحظ، لم تعِ، لم تبح بأن السلطة الواجب التصويب عليها هي السلطة الحاكمة، وأن هذه السلطة الحاكمة هي حزب الله، الإيراني التمويل والتوجيه والخطط والرؤى.. إذا لم تفعل ذلك، فهي معارضة "رسمية" كما يوجد في القريب منا، في سورية، حيث الحزب الشيوعي السوري البكداشي، المشارك في "الجبهة الوطنية"، والذي له رجالٌ في البرلمان البعثي.
الطبقية هذه المرّة أخرجتنا من غيبوبتنا الطائفية. وقد تستقيل الحكومة، قد تضحك علينا ببعض "التنازلات"، فتبقى. ولكن المؤكد أن انتفاضة هذا الخريف 2019 سوف تختلف عن نظيراتها في العامين 2011 و2015. أوجدت ديناميكيةً جديدةً عليها أن تعيش وتبقى.