هذا التوريط الفرنسي للسعودية.. سياحيا

هذا التوريط الفرنسي للسعودية .. سياحيا

23 أكتوبر 2019
+ الخط -
"العُلا، واحة العجائب في الجزيرة العربية" عنوان المعرض الاستثنائي الذي يستضيفه معهد العالم العربي في باريس، حتى 19 يناير/ كانون الثاني المقبل. ويهدف المعرض إلى التعريف بالجمال الطبيعي لمنطقة العُلا في العربية السعودية، ودعوة الزوار لزيارتها، حيث يرصد المعرض تاريخ الممالك القديمة التي عمّرت في شمال الجزيرة العربية منذ مملكتي دادان ولحيان ومدينة الحِجر النبطية، إلى الإمبراطورية العثمانية، مرورا بالرومان والبيزنطيين، ثم العرب المسلمين ودول خلافاتهم. المعرض جزء من طموح السعودية لولوج عالم صناعة السياحة الدولية؛ وهذا مشروع تشرف على إنجازه فرنسا وتسوقه للمملكة بأسعار تفوق بكثير مبيعاتها من السلاح. 
بدأت قصة "التعاون الثقافي" بين باريس والرياض في مارس/ آذار 2006، حين حضر الرئيس الفرنسي الراحل، جاك شيراك، افتتاح معرض "روائع من الفنون الإسلامية" في المتحف الوطني في الرياض، فاقترح على العاهل السعودي، في حينه، عبد الله بن عبد العزيز، إرسال المملكة تحفها الأركيولوجية إلى متحف اللوفر في باريس، للتعريف بتراث الحضارة الإسلامية والعربية. لم يتردد الملك في تلبية هذا الطلب، فاحتضن "اللوفر" شهرين ونصف الشهر من العام 2010 معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية - روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور"، وضم 320 قطعة أثرية عرضت للمرة الأولى خارج المملكة، وخصص لعرضها قاعة نابليون، أهم قاعات "اللوفر".
استغل السياسيون الفرنسيون نجاح المعرض، للمضي في مشروع أكثر طموحا، إذ حصلوا على 
نصيب الأسد من فرص التنقيب عن الآثار في المملكة. ونشروا سبع بعثات أثرية على الأراضي السعودية، نقبت في جميع أنحاء البلاد باستثناء نجران، ودرست المواقع الأكثر رمزيةً في المملكة، بما فيها المقابر النبطية في مدائن صالح ومدينة ثاج الأثرية وواحة دومة الجندل. وعلى عكس البعثات الأجنبية الأخرى التي اكتفت بالتنقيب عن الآثار، وظف المسؤولون الفرنسيون اكتشافاتهم توظيفا تجاريا، وأقنعوا المملكة بخوض مغامرة مشروع سياحي ضخم، لتنويع مواردها وتخليصها من لعنة الاعتماد على النفظ. وتُوجت جهودهم بتوقيع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في إبريل/ نيسان 2018 على مشروعٍ يمتد من حدود السعودية مع الأردن إلى البحر الأحمر، وتتولى فيه الوكالة الفرنسية لتنمية العلا AFALULA مهام التخطيط والإشراف على تطوير هذه المنطقة سياحيا، خلال مدة بين خمس وعشر سنوات.
هذا هو الحلم الذي استطاعت فرنسا أن تبيعه لآل سعود بتكلفة تقدر ما بين 50 و100 مليار دولار، ستجني باريس معظمها مقابل دورها التأطيري والاستشاري، بالإضافة الى حصول الشركات الفرنسية على عقود أشغال على نحو تفضيلي، سيّما في مجالات تطوير المدن المستدامة، وإدارة الموارد والصحة والتدريب والطاقة والسياحة والاستثمار. وبهذا ستحقق فرنسا أرباحا تفوق بكثير ما تجنيه من بيع الأسلحة إلى السعودية الذي لم يتجاوز 12 مليار دولار بين 2007 و2016.
أما بن سلمان، فلقد أقنعه شركاؤه الفرنسيون بأن مشروع "واحة العلا" سيحول بلاده إلى قبلة عالمية للسياحة، وسيكسبها حوالي 32 مليار دولار بحلول عام 2035 عبر جذب مليوني زائر سنوي. وهذه رؤية حالمة ومشروع هلامي أكبر خلل فيه تركيزه على السائح الغربي، وإقصاء زهاء مليار مسلم يشكلون سوقا كان المفترض استهدافها، نظرا لسهولة تأقلمها مع المجتمع السعودي المحافظ، وحب اطلاع شريحة كبيرة منها على عجائب الأرض المقدسة التي لا يستطيعون إليها سبيلا؛ إذ فتحت السعودية أبوابها أخيرا أمام مواطني 49 دولة أجنبية، للدخول إلى أراضيها بدون تأشيرة مسبقة، لا تضم لائحة المرغوب فيهم التي يتصدّرها الأوروبيون أكثر من دولتين إسلاميتين (ماليزيا وسلطنة بروناي)، في حين لم تحظ أية دولة عربية واحدة بشرف الاستمتاع بالسياحة في بلد قِبلة الإسلام.
قد يلقى معرض العُلا نجاحاً في فرنسا وغيرها من العواصم الغربية، ولكن هذا الإعجاب لا 
يضمن تدفقهم وتهافتهم على السعودية، بغرض الاستكشاف والاستجمام، لأن صورة البلاد وواقعها يتنافيان مع أهم مقومات السياحة، وفي مقدمتها الحريات بكل أنواعها، فعلى الرغم من السماح للنساء بقيادة السيارات والسفر خارج البلاد واستصدار جواز السفر من دون الحاجة إلى ولي الأمر، شهدت المملكة حملة قمع واعتقال واسعة، طاولت معارضين سياسيين وناشطين وناشطات في مجال حقوق المرأة وحقوق الإنسان، فضلا عن مشايخ ودعاة وأمراء ووزراء سابقين. ثم جاءت فضيحة مقتل الصحافي جمال خاشقجي التي هزت عرش آل سعود، وبددت صورة "الأمير المصلح" الذي يحاول محمد بن سلمان تسويقها للعالم.
لم يستوعب الأمير الدرس الذي لقنه له العالم عبر قضية خاشقجي، وواصل مسرحية الانفتاح بالتركيز على المرأة التي أصبح في وسعها دخول الملاعب الرياضية والترشّح في الانتخابات وولوج وظائف عسكرية، فضلا عن مكتسبات أخرى، تعتبر مؤشرات إيجابية بدون شك. ولكن هذه العملية التجميلية لا تغطي قبح ممارسات المملكة الاستبدادية، في ظل اعتقال مزيد من المواطنين العاديين والمعارضين ومشايخ الدين وتجاهل دعوات إلى الإفراج عن ناشطين وناشطات حقوقيين، واستمرار الرياض في حرب اليمن وفرض الحصار على قطر. جرائم النظام، من ضرب الرقاب مرورا بقصف المدنيين وجرائم ضد الإنسانية في اليمن، لا تجلب للبلاد الحب والتقدير والإعجاب الذي من شأنه أن يجذب ملايين السياح الغربيين، بل تأجج سخط العالم له. ويكفي التذكير بأن معرض العلا قد فتح أبوابه للجمهور يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول 
الجاري، وسط استنكارات فرنسية للحملة الدعائية للسياحة في السعودية، فعوض أن تخطف قلوب الفرنسيين، أثارت الملصقات الضخمة في المقاطعة التاسعة في باريس غضب جمعية طلاب العلوم السياسية، وعلق عليها عمدة المقاطعة الثانية في مدينة الأنوار، واصفا السعودية بـ"المملكة الشمولية". وقالت النائبة عن جبهة اليسار، دانيال سيمونيه، إنها البلد الذي "يرجم النساء ويقطع رقاب معارضيه"؛ وذلك من بين ردود أفعال تُنذر بأن أكبر تحدٍّ لمشروع الانفتاح السياحي يكمن في الصورة القاتمة لمملكةٍ اشتهرت بالقمع والعنف والتخلف والتضييق على الحريات الأساسية.
ليست آثار فرنسا ومعالمها وجمال طبيعتها وطبخها وعطورها ونبيذها فقط ما يجعلها تتربع على عرش السياحة العالمية، وإنما الصورة الرومانسية التي رسمتها لنفسها على نحو حوَّلها إلى قِبلة الحب والحرية والثقافة والجمال. صورة استغرقت بلورتها قرونا، قبل أن تتحول إلى صناعة سياحية تساهم بنسبة 7% من عوائد الاقتصاد الفرنسي. تجلب فرنسا السياح، لأنها بلد الأدب من موليير إلى رامبو، مرورا بفلوبير؛ بلد الفنون التشكيلية بتنوّع مذاهبها؛ مسقط رأس رينيه ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة ومؤسس العقلانية؛ حاضنة فولتير وجون جاك روسو وغيرهما من فلاسفة الأنوار؛ نبع الثورة التي صاحبها إعلان حقوق الإنسان والمواطن. تضافر هذه العوامل هو رأس مال صناعة السياحة التي تألقت فيها فرنسا إلى جانب إيطاليا وإسبانيا.
إذا كانت السعودية تراهن حقا على هذه الصناعة، فعليها أن تنخرط في مسيرة السلم والحب والحرية، وتسمح بتحرّر نسائها ورجالها، لأن جمال طبيعتها وثروة تراثها لا يكفيان لإغراء الأوروبيين. السائح الغربي مثل الطير، يحط الرّحال في الأماكن الآمنة والمُغرية التي يجول فيها ويسبح ويمرح ويلبس ويأكل ويشرب بكل حرية، ولن يقبل رقابة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري