تجاوز الطائفية والطبقة السياسية

تجاوز الطائفية والطبقة السياسية

23 أكتوبر 2019
+ الخط -
بعد تسع سنوات من الثورات العربية، تبدأ موجة جديدة، كانت انتفاضة السودان الطويلة عنوانا لها، تلتها الجزائر، ثم العراق ولبنان. وفي هذه البلدان، يبدو الحراك الثوري العربي متطورا، من حيث أدوات التنظيم ومضمون الخطاب والأهداف، إذ تحمل خطابات الحراك وشعاراته خبرات ما سبقها من فصول الاحتجاج محليا وإقليميا. ترفض الموجة الثانية، مع تنوعها الجغرافي وتفاوت قوتها، الطائفية مظلة سياسية، والتي استخدمت لتثبت الأوضاع القائمة، وحفظ مكاسب مجموعات المصالح المافياوية، باسم الزعامة والقيادة الروحية والقدسية. 
تعيد الاحتجاجات في العراق ولبنان المساحات المغتصبة من الحركة وحرية التعبير التي أمّمت مرتين، مرة باسم النظام والاستقرار، وأخرى بسلطة الطائفة التي تحكم أتباعها عبر هيمنة ثقافية ذات جذور دينية وعاطفية. باتت الطائفية غير قادرة على القيام بوظيفتها في حفظ النظام والهيمنة على أعضائها بتأثيرات الانتماء، أو عبر تقديم خدمات لرعاياها. هنا برزت أولوية المواطنة، الحقوق المتساوية، الحق في التعبير، التحرّر من سلطة الطائفة، وكسر نموذج الولي والتابعين.
يترجم الحراك عمليا الحق في المشاركة التي اغتصبها الزعيم والممثل الديني الطائفي، الولي الذي أجبر الرعايا على الصمت، واغتصب حقهم في التعبير بوصفه ممثلا لهم، ويطالب المحتجين بمواجهة النهب والفساد، ونقص الخدمات، ويرفضون السياسات التي تنتج الفقر والتهميش والبطالة، وكل مخرجات النظام المافياوي الذي يحكم تحت مظلة الطائفة.
يعيد الحراك قواعد الصراع والاصطفاف إلى مساره الحقيقي، الصراع الطبقي، ويناقش التفاوت 
الاجتماعي، ويعبر عن أوضاع المفقرين والعاملين بأجر، ليكون الاصطفاف شعبا ضد من ينهبه. وبتعبير كلاسيكي، مستغَلين ضد مستغِلين، وهو أكثر ما يقلق زعماء الطوائف، بجانب أن الحراك تجاوز سلطتهم وتحكّمهم وتلاعبهم بكتل الطائفة، سواء بحشدهم في احتجاجاتٍ ذات طابع طائفي، أو في عمليات الحشد والتصويت، أو غيرها من صور التعبير أو الاصطفاف والتكتل. بعد موجة الاحتجاج، أخيرا، لم تعد علاقة زعيم الطائفة بأبنائها، كما كانت، إطارا حاكما يضبط أهل العشيرة، ويشكل حركتهم واتجاهاتهم.
صرخ المحتجون في يوميات الاحتجاج، وأوضحت خطاباتهم قدر الوجع والأزمة الشاملة والمتجاوزة التقسيم الطائفي، والمستندة إلى حقائق التفاوت والصراع الطبقي. كلنا موجوعون، نحن المهمشين والعاطلين من العمل، والعاملين بأجر، والمواطنين الذين يعانون نقص خدمات التعليم والصحة وخراب البنية التحتية. يظهر التقسيم الحقيقي بين من يملكون مليارات في المصارف غير معروفة المصدر ومن لا يملكون حريتهم وإرادتهم، وعاجزين عن العيش بكرامة وتوفير الخدمات لأبنائهم.
الحركات الاجتماعية بديل للطائفة، ومضادّة لها، بوصفها تعبيرا مباشرا عن فئاتٍ تواجه مخاطر تنتجها الطبقة الحاكمة، وهي حركاتٌ تريد انتزاع الحقوق وإقرار العدالة، وتراكم النجاحات في كل جولة احتجاج، وتخلخل النظام، وصولا إلى الثورة إذا توفرت شروطها، من مشاركة جماهيرية واسعة، وتنظيم الاحتجاج وتوجيهه، والمحافظة على استمرار الشعارات الممثلة للفئات المحتجة، وقدرة الحراك على وجود ممثلين له.
تتوحش الطائفية في مقاومة الحركات الاجتماعية، تعرف أنها تسلبها الغطاء الذي تظهر فيه بمشهد القدسية، القيادة والزعامة والرعاية. لذا يشهد العراق ولبنان عنفا من الطبقة السياسية، وليس 
وحسب عنف أجهزة الأمن.
وتظهر أزمة النظام الطائفي، حين تكتشف الجماهير جوهره، يسرق أقوات الناس، يحفظ مصالح النخب الاقتصادية، بغطاءٍ من التبجيل والقدسية. أمام ذلك، تفيض لغة الاحتجاج بالسخرية والتهكم والإهانة لكسر قدسيةٍ زائفةٍ لملوك الطوائف، أعمدة النظام. تتجمّع ردود الفعل الغاضبة من سنوات الصمت والصبر، لتظهر، في أيامٍ، مكثفة وقوية وجارحة.
ما يجري في لبنان من احتجاجات، وما سبقها من حراك عربي في السودان والجزائر والعراق، ينبئ بأننا أمام تشكل حركات اجتماعية عربية، تستفيد من خبرات ما سبقها، وتعلن سقوط توهمات روّجت بوصفها حقائق، منها أن الحركات الاحتجاجية تنشأ على أرضية دينية، ذات طابع طائفي وعنصري، فتأتي احتجاجات العراق ولبنان تحديدا لتثبت عكس ذلك، بل ترفع شعاراتٍ تطالب بالمدنية، وترفض الطائفية والتكتل السياسي على أساس طائفي أو ديني.
وتوضح الموجة الثانية من الحراك أن الشعوب العربية قادرة على الدفع في اتجاه تشكل نظم ديمقراطية تشاركية، تتجاوز البنية التقليدية للمجتمع (الطائفة والقبيلة والعرق والجهة) كأساس للتنظيم السياسي، فهي تطالب بنماذج حداثية وديمقراطية، شعاراتها المساواة والعدالة، ورفض أي حكم سلطوي، ديني أو طائفي أو أمني وعسكري، ينهب الشعوب، ويثقل حياتها بالضرائب وسياسات التقشف وتخفيض الإنفاق العام.
ويؤشر الحراك في العراق ولبنان إلى أن الشعوب العربية لم تستسلم، ولم تتخوّف من إخفاقات 
الموجة الأولى للثورات العربية، كما أنها، وعلى الرغم من عمليات التدجين والاحتواء والإنهاك، لديها شجاعة الاحتجاج، وقادرةٌ على خوض المخاطرة، ولا تعبأ بدعاية الثورة المضادة التي توصم حراك الشعوب بأن نتائجه الخراب والفوضى ومنشؤه المؤامرات الخارجية.
وقد تجاوز حراك العراق ولبنان، إلى حد كبير، القوى السياسية، وأعلن فشل النظام السياسي. كما تجاوزت الاحتجاجات نخبا تقليدية كثيرة. وظهرت نخب جديدة قادت الاحتجاجات، وإن كان بينهم منتمون لأحزابٍ في ما مضى، أو أعضاء حاليون، فإنهم تجاوزوا التعبير عن أحزابهم في الغالب. كما توفر الاحتجاجات فرصةً مواتية لحضور التيارات المتجاوزة الطائفية والرافضة لها، والتي كانت ترفع شعاراتٍ يتبناها المحتجون اليوم، في ما يتعلق بدولةٍ ديمقراطية علمانية لكل مواطنيها.
ولا تتوقف شعارات انتفاضة لبنان تحديدا عند إسقاط النظام، بل الشعب يريد إسقاط الطائفية، ويريد نظاما جديدا. وبذلك تستفيد من خبرات الانتفاضات العربية، كما أن الاحتجاجات تركّز على مطالب اقتصادية واجتماعية، وتطرح خصوصا في لبنان مطالب تتجاوز عمومية شعارات الموجة الأولى من الانتفاضات العربية.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".