"بدنا علمانية"

"بدنا علمانية"

22 أكتوبر 2019
+ الخط -
قرأت عن طائفية لبنان قبل أن أراها، وحين ذهبت إلى بيروت، أول مرة، قبل سنوات طويلة، رأيت ما لا يُخبرك به كتاب، اللبنانيون "مسمّمون بالطائفية" لعله التعبير الأقرب إلى واقع الحال، فهم ليسوا طائفيين باختياراتهم، من يحكمونهم هم من فعلوا ذلك، وضعوا لهم سمّ الطائفية في عسل الدين، والمذهب، طيّفوهم ليسرقوهم، طيّفوهم ليحكموهم، طيّفوهم ليتحكّموا بهم، طيّفوهم ليضعفوهم، ويجعلوا بأسهم بينهم. 18 طائفة، كل منهم يرى في "آخره" خصما، ويرى أمانه في طائفته لا في وطنه، مع رئيس طائفته لا مع رئيس دولته. يطالب بحقه في كعكة لبنان من خلال الطائفة، ينتخب رئيس الطائفة، ليحميه من بقية الطوائف. لا خدمات ولا فرص عمل، والأسعار مرعبة، لا يحصل اللبناني على شيء، رئيس طائفته يحصل، نيابةً عنه، على كل شيء، حتى أعياد اللبنانيين يحتفلون بها من خلال طوائفهم، علم لبنان هو آخر ما يحضر في مناسباتهم القومية، كل طائفة تحتفل بعلمها، وبصور رموزها. لم يحضر لبنان إلا اليوم، لم يحضر علم لبنان بألوانه المبهجة إلا يوم ثار اللبنانيون، على طوائفهم، على أنفسهم، على خصمهم الحقيقي، لصالح وطن واحد، وطن حقيقي.
اللبنانيون يهتفون: "كلن يعني كلن"، يريدون رحيل الجميع، لا رأس الدولة وحده، ولا الحكومة وحدها، ولا وجوها يستبدلونها بأخرى، والنظام باقٍ، والنهب باقٍ، والطائفية باقية. اللبنانيون فهموها، من تجربتهم، قبل تجارب الآخرين، في طرابلس هتف المتظاهرون لإخوانهم في صور الذين تعرّضت مظاهراتهم للقمع الأمني، طرابلس سنية.. محافظة، صور شيعية، صور حركة أمل وحزب الله، السلفيون السنة يهتفون للشيعة، هنا لبنان: "صور صور صور/ كرمالك بدنا نثور"، هل تعرف معنى البكاء فرحًا؟ الآن يعرفه اللبنانيون، ويفهمونه، في ساحة الشهداء في بيروت، ذهبت إليهم، رأيتهم، هتفت معهم، مليون لبناني يهتفون: "ما بدنا طائفية.. بدنا دولة مدنية.. بدنا دولة علمانية". البسطاء يهتفون للعلمانية، يطالبون بها. الحاجة أم الاختراع، والثورة أصدق إنباء من الكتب. دعك من طنطنات المشايخ وخصومهم. هنا يدرك اللبنانيون أن العلمانية بديل الطائفية الدينية، لا بديل الدين، يطالبون بإسقاط حكومةٍ منتخبة، نعم منتخبة، هم من انتخبوهم، وهم من ينتخبونهم طوال 30 سنة مضت، وهم من يريدون اليوم إسقاطهم، فالديموقراطية ليست صندوقا، لا في لبنان الطوائف، ولا في مصر العسكر والإخوان المسلمين، ولا في أي مكان، الصندوق أداة، ومصالح الناس مقصد وغاية، فإذا غابت المصالح، فالصناديق ضجيجٌ بغير طحين، عدم، لا يبدّده سوى هتاف: ثورة ثورة.
حضرت مصر، هتف المتظاهرون ضد عبد الفتاح السيسي، وضعوه في سلة واحدة مع حكّامهم، شتموه في أغنيات، هتافات، لافتات. مشاعرهم حقيقية، لم يتأثروا بمزايدات إعلامه على السودانيين والجزائريين والعراقيين والتوانسة، بألا يتدخلوا في شؤون استبداده بمواطنيه. على المنصّات غنّى اللبنانيون لسيد درويش والشيخ إمام، "أهو ده اللي صار" و"شيّد قصورك"، غنى عبدالكريم الشعار لسيد مكاوي، ابتهاجا، وضعوا لبنان مكان مصر في الأغنية. كسروا الوزن، لكنهم لم يكسروا القاعدة. لا أحد هنا ينظر إلى خريطة الوطن العربي بعيون "سايكس بيكو"، هذه بلادُنا، همومنا واحدة، وأوجاعنا مشتركة، وأفراحنا أيضا.
يحتاج اللبنانيون الآن إلى بديلٍ جاهز، يحتاجون لمن يمثلهم، يتحدّث باسمهم، الثورة فعل جماهيري، لكنه لا يكتمل إلا بتحوله إلى فعل سياسي ناضج. يهتف اللبنانيون ضد الساسة، حقهم، تجربتهم معهم مريرة، إلا أن تجربة، أو أكثر، مع أطباء فاشلين، لا تعني نفي الطب، ومحاربة المرض بالهتاف ضده. يصعب ذلك اليوم، لكنه يحتاج لمن يفكّر فيه من أجل غد قريب، يراه الأصدقاء في لبنان خطرا قد يودي بالحراك. ميراث الطائفية لم يزل حاضرا، قد يلقي بظلاله على شخص من يختارونه. في الأخير، لا أحد يمثل الجميع. مشكلة، ولكن لها ألف حل. لبنان ليس فقيرا، نهبوا أمواله لكنهم لم ينهبوا رجاله، والساحات التي أنجبت جماهيرها سوف تنجب نخبها. وحدها إرادة اللبنانيين سوف تتكفل بكل شيء، فافعلوها.
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان