حمولة لا مرئية

حمولة لا مرئية

21 أكتوبر 2019

(صلاح المر)

+ الخط -
قرأتُ، مراراً، عن التوحّد، مانشيتات صحافية من قبيل "تعلموا الصبر من أمهات أطفال التوحد"، أو "هؤلاء الآباء والأمهات لا نراهم بسهولة، لأنهم يكونون منطوين على آلامهم"، أو "آباء في حالة ذهول معظم الوقت"، أو "من يمنحه الله ابناً مصاباً بالتوحد انتهت حياته من دون جدال"، أو "سيعيش كل أب وأم بين البشر ولكن على هامشهم"..
كانت تلك المانشيتات تمرّ أمام ناظرَيّ، فيسكنني تعاطف مع آباء هذه العيّنة من الأطفال، لا يخلو في باطنه من تأنيبٍ لتلك الصّحف والمنابر، التي تُضخّم الأمور. ولكني تيقنت من الأمر كلياً، وأدركت أنه لا يوجد أدنى تضخيم، حين رأيت ذلك الرجل الغريب.
كنت في حي المرجة في فاس، غير بعيدٍ عن محطة التاكسيات الحمراء والسوق الشعبي، في مقهىً اعتدت أن أجلس فيه ساعتَي المساء، من الرابعة حتى السادسة. أمامي، وفي زاويةٍ شبه معتمة، صالة تعليم "الكاراتيه" للأطفال. كانت تلك الزاوية قريبةً بما يكفي لأن يسمع من يهتمّ، ولديه ما يكفي من التركيز، كل ما يدور في ذلك المسرح المغلق. كذلك يمكن لمن يهتمّ بالتفاصيل أن يسمع أصوات السوق الشعبي، ولمن ركّز أكثر أن يسمع أصوات أحاديث أصحاب محطة التاكسيات الحمراء، من مجلسه في المقهى الذي كنت فيه، مقهى زهرة الجبل.
رجل خمسيني "يجرّ" ولده أمامنا كل يوم. كان الطفل، ذو السابعة أو الثامنة، يقف أحياناً أمام رواد المقهى مباشرة. يطلق صوتاً ضاحكاً مرحاً، ثم يُردفه بقذف فردة حذائه. تطير الفردة في الهواء، قبل أن تستقرّ عشوائياً حيثما اتفق. كان يعاند، بطريقته، أمر الدخول إلى صالة الكاراتيه، الذي يصدره له والده.
يسحب الأب الذي يبدو ساهماً، وقد سكنته راحة اللامبالاة، الطفل من يده، وهو يتقدّم ليلتقط فردة الحذاء المقذوف، ويحاول إرغام الطفل على انتعالها، ثم يتقدّم ناحية الصالة، حاملاً الفردة في يده.. تكرار "المشهد" يجعل الفردة تنزل كل يوم في مكان أو زاوية مختلفة. وقد اعتاد الطفل أن يقذف بها كلما اقترب من مقهانا، كأنه يبعث، بطريقته، رسالة احتجاجٍ، لحظات قبل ولوجه الصالة، أو بالأحرى إرغامه على ولوجها. تستقر الفردة، أحياناً، فوق إحدى طاولات المقهى، فيتقدّم الأب ساحباً الطفل ليلتقطها، وهو يوزع ابتسامة اعتذار على الجالس أو الجالسين حول الطاولة.
بعد أن يترك الرجل طفله في الصالة، حيث يستلمه مدرّب الكاراتيه، الشاب، يعود صوب طاولات المقهى، ويختار مكاناً يمكنه منه مراقبة باب الصالة. يجلس شارداً وهو يرتشف قهوته الـ"نّورمالْ ليجي". يلحظ من يراه كل يوم على هذه الحالة من السكينة، المغموسة باليأس والإحباط، أن الطفل يحمل ملامح مصغَّرةً عنه، وأنه قد "ورث"، أيضاً، مكنونات والده، إذ لا يمكن أن يخطر في البال أن الطفل هو من أدخل الأب إلى عالمه، وليس العكس. قوة البراءة وسلطتها، والتي من الجرم أن يفكر المرء في خطورتها.
أعود من شرودي على وقع هرج ومرج في الأرجاء. أصوات تتعالى من صالة الكاراتيه أقوى فأقوى. وفجأة، يمرُق الطفل من الباب، يلاحقه طفلان، تسبقهم صيحاتٌ غير مفهومة. وحده والده كان يعرف أنهما يطاردانه، ليُخرجا من فمه قطعة اللبان التي اتّسخت، وصارت غير لائقة للمضغ، بعدما أخرجها من فمه وألصقها بالجدران ثم أدخلها، من جديد، في فمه.
ارتسمتْ على محيّا الوالد ابتسامة ملغزة، وهو يراقب مشهد المطاردة ببرود؛ وكأني بالمطارَد ليس فلذة كبده. ثم شرع في الضحك، كاتماً صوت ضحكته بوضع يده على فمه، وهو يشيح وجهه عن أنظار رواد المقهى الفضولية. فكّرتُ: لا شك في أن "اللقطة" تكرّرتْ مراراً، حتى صارت شيئاً غير ذي بال في نظره، وأصبح يقابلها بكل هذا الحياد. وحده يدرك أنّ هذا المشهد ليس شيئاً أمام كل "مفاجآت" ومطبّات يومه مع ابنه المريض.
ليس هيّناً أن تكون والد طفل متوحّد، قلتُ في نفسي. كان الله في عونه، وفي عون كل الآباء ممن يتعايشون مع حالاتٍ مماثلة.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي