تحية إلى ثورة الشباب اللبناني

تحية إلى ثورة الشباب اللبناني

21 أكتوبر 2019
+ الخط -
يكتب شابات لبنان وشبابه صفحة جديدة من تاريخ بلدهم الصغير الذي شهد حروباً أهلية طاحنة، وحروباً إسرائيلية مدمرة، ولطالما استخدم ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية ومعتركاً لصراع على القوة والنفوذ. يعيش لبنان اليوم ثورة شبابية مختلفة ضد الطبقة الحاكمة، وضد الفساد السياسي، وضد العجز الحكومي الفاضح في تسيير أمور الدولة والناس. والشابات والشباب اللبنانيون هم الضحية الأولى لهذا الإخفاق والعجز منذ سنوات. انتفضوا ليقولوا كفى للزعماء السياسيين كلهم، ويجب أن ترحلوا كلكم. الأكثرية الشبابية التي كانت صامتة أو مهمشّة أو لم يكن صوتها مسموعاً في ظل الضجيج السياسي والصوت العالي لزعامات السياسة التي كانت تتهم بالتخوين كل من يجرؤ على انتقادها، خرجت إلى الشوارع في كل المناطق اللبنانية، ورفعت صوتاً واحداً يتلخص بكلمتين: كفى ارحلوا.
الحراك الشبابي عفوي، على الرغم من محاولات إظهاره انقلابياً، أو تحرّكه أيادٍ أجنبية. صرخة واحدة من الجنوب إلى الشمال، وإلى أقصى البقاع. هؤلاء الناس أفرادٌ، بالدرجة الأولى، يحملون صوتهم وإرادتهم الحرّة، ليقولوا إنهم لن يقبلوا بعد اليوم الرضوخ لمنطق الطبقة السياسية وللجشع وحيتان المال. يريدون العيش بكرامة، ووظائف وحقوقاً.
انتفاضة الشباب اللبناني مطلبية اجتماعية مدنية بامتياز، لأول مرة يظهر حس المواطنة عند 
اللبنانيين. لم يعد هؤلاء الناس يثقون بوعود زعاماتهم الحزبية والسياسية التي لم تتحقق، ولم يعد في وسعهم الانتظار أكثر، وها هم يخرجون إلى الشارع لتحقيقها بأيديهم وحناجرهم.
إنها انتفاضة شبابية شعبية سلمية، على الرغم من مظاهر عنف وتحطيم في اليومين الأولين. الغضب يمكن أن يتحوّل إلى عنف. هناك دائماً أطرافٌ تحاول أن تجيّر الغضب إلى عنف، وتحويله إلى شغبٍ مقصود. يبذل المحتجون جهدهم احتواء هؤلاء، يحاولون حماية تحرّكهم السلمي.
للنساء اللبنانيات دور كبير في هذه الانتفاضة، موجودات في الصفوف الأمامية لمنع الاحتكاك بين المحتجّين والقوى الأمنية، بين الصفوف المكتظّة من كل الأعمار طالبات جامعات، أمهات مع أولادهن، وكهلات. وجودهن الكثيف أعطى فرصة للمرأة اللبنانية التي تقريباً لا وجود لها في الطبقة السياسية اللبنانية إلا زوجة الزعيم السياسي فلان أو أخته، كي تثبت أهليتها وقدرتها على أن تكون فاعلةً في التغيير المنشود، ولتقول إنها عنصر مهم لا يمكن للتغير أن يحدث من دون مشاركتها. في وسط النهر البشري الذي يتدفق إلى ساحتي رياض الصلح والشهداء في بيروت، اللبنانيات، خصوصاً الشابات والفتيات، في كل مكان، يشعرن أن صوتهن أقوى ومسموع أكثر.
انتفاضة الشباب اللبناني من دون قيادات أو زعامات معروفة، تحرّك جماعي من خلال شبكة 
التواصل الاجتماعي التي لعبت وتلعب دوراً كبيراً في التجنيد والتعبئة. هي تحرّك له دينامية فريدة، يفرض إيقاعه الشباب بوعي مدني مثير للإعجاب. الإصرار على رفع شعاراتٍ موحدة، وعلى عدم الدخول في معركة توجيه الاتهامات إلى فريقٍ دون آخر حمى ويحمي هذا التحرّك من خطر الشرذمة والانقسام السياسي. العصب المحرّك لكل التحرّكات هو هذا الهم المشترك، الذي يسمّيه المحتجون "الوجع" الذي يجمع اللبنانيين من كل الأعمار والطوائف، ومن جميع الطبقات الاجتماعية. وجع الخوف من المستقبل في ظل نسبة بطالة تصل بين الشباب إلى 30%. "وجع" العيش في بلدٍ يتهاوى اقتصادياً، بينما يتقاتل مسؤولوه على حماية مكتسباتهم. "وجع" مجتمع بأسره، يتعامل معه زعماؤه على أنه قطيع لا صوت له ولا رأي له. "وجع" شعبٍ صودر قراره السياسي منه، نتيجة نظام انتخابي، يعيد إنتاج الطبقة السياسية نفسها، ويعمل على استنساخ جماعة من المستفيدين والمتملقين. "وجع" الخوف من انهيار العملة اللبنانية والتضخم. "وجع" أن يستيقظ اللبنانيون ذات صباح، ليجدوا أن بلدهم أعلن إفلاسه.
تذكّر انتفاضة الشباب اللبناني كثيراً بانتفاضة الشباب العربي على الأنظمة الفاسدة. ولكن على أمل أن يكون المنتفضون تعلموا دروس فشل الربيع العربي. إنها تشبه التحرّك المطلبي في 
العراق، وتحرّك الشعب السوداني الرائع، والتظاهرات في الجزائر وتونس. كذلك يمكن أن نرى تأثير تحرّك "السترات الصفراء" في فرنسا، والتشابه مع تظاهرات الشباب واحتجاجهم في هونغ كونغ على حكومة بكين الذي أطلق عليه احتجاج المظلات.
هل تستطيع هذه الانتفاضة الشعبية إحداث تبدّل فعلي ما في الواقع اللبناني السياسي الراهن الشديد التعقيد، والذي يعاني من أمراض مزمنة، تعود إلى سنوات طويلة من عقليةٍ متخلفةٍ في إدارة الحياة السياسية التي تعتمد الاصطفاف الطائفي والمذهبي على تقاسم المصالح؟ وهل في إمكان هذه الانتفاضة أن تخترق الهيمنة الهائلة لفئةٍ سياسيةٍ تملك فائضاً هائلاً من القوة العسكرية ومن النفوذ الإقليمي، مثل حزب الله الذي يرفض أمينه العام، حسن نصر الله، مطلب المحتجين استقالة الحكومة؟ والأهم كيف يمكن لهذه الانتفاضة أن تحقق مطلبها في المساءلة والمحاسبة في نظامٍ لا يملك الحد الأدنى من هذه الآليات؟
من السابق لأوانه التنبؤ بما ستؤول إليه الانتفاضة الشبابية، ولكن يمكن القول إنها شكّلت صدمة إيجابية أيقظت الوعي العام، وأطلقت صرخة مدوية لرفض الوضع القائم، وللخروج من حالة الاهتراء السياسي الراهن. وبغض النظر عن النتائج السياسية، هذه الانتفاضة صورة عن أحلام الشباب، وإيمانهم بلبنان أفضل. والأهم أنها بارقة أمل في بلدٍ فقد منذ وقت أمله بغد أفضل.
رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر