لبنان .. الكهرباء ولعبة القدر

لبنان .. الكهرباء ولعبة القدر

03 أكتوبر 2019
+ الخط -
فوجئنا، في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، أي منذ ما يقارب اليوم نصف القرن، بانقطاع الكهرباء. كنا نتصوَّر أن الحرب لن تنال إلا من أرواحنا، وأننا سوف نربحها على كل حال.. وإذا بها تضرب في صميم انتظام هذه الحياة، التفصيلية منها، الأقل "استراتيجية" من معارك موازين القوى ومستتْبعاتها، وإلى ما هنالك من أقاويل كنا نردّدها بإيمان من سمعها منذ مراهقته. المهم أننا تدبّرنا أمورنا الكهربائية تدريجياً، وصرنا علماء بالبدائل المتوفرة، أو المخترعة، أو المستعادة. الشموع، طبعاً، كانت الطليعة، ومعها ربما قناديل الكاز، تلك الأوعية المستديرة التي يرتفع فوقها زجاج ملتوٍ، يمرّ في داخله شاش غُمِّس طويلاً بالكاز، فيعطى ضوءا، أشبه بالرومنطيقي، ينافس الشموع أحيانا، لولا رائحته النّفاذة الخانقة. ثم ارتقينا بعدها مع ما اعتبرناه وقتها اختراعاً، أي قنديل "اللوكس"، الذي لا يختلف عن القنديل تصميماً، لكنه أكثر تعقيداً، وإضاءة، ويحتاج إلى "مهارة" خاصة، لإشعال شاشه الداخلي، وحقْنه بالكاز الراكد في أسفله. ومع "البطارية"، تقدّمنا خطوات؛ مع هذه الكتلة الحديدية - البلاستيكة الضخمة المشحونة من بطارية السيارة في البداية، ثم بكتلة أضخم منها نضعها على مقربةٍ منا، على الشرفة غالباً.. صرنا نجلب الكهرباء الكهربائية، ونغذّي البيت بها، وإن بأمبيرات أقل من كهربائنا العادية، المعروفة قبل الحرب. ثم تطوّرت الأمور، وباتت "الخطوط"، أي تلك الحبال المتداخلة المتدلّية فوق الرؤوس، وأحيانا إلى جانبها.. هي التي تحلّ المسألة: نجلب بها كهرباء، إما من خطوطٍ ما زالت شغّالة، نظراً لقربها من منزل هذا الزعيم أو تلك القيادة، أو من طليعة المولّدات الكهربائية التي أصبحت في ما بعد الحل "المعاصر" لمعضلة الكهرباء، وما زال معتمداً. خلاصة هذه المغامرة الكهربائية مع الحرب أننا كنا نحلم بعودتها في أثناء حلمنا بانقضائها: تنتهي الحرب ونخلص من أزمة الكهرباء. 
كل المحظوظين من "وزراء الطاقة" الذين أتوا بعد نهاية هذه الحرب، ويعَدّون بالعشرات، كانت وعودهم حماسية: "سوف نعيدها أربعاً وعشرين على أربع وعشرين ساعة". ومن بين هؤلاء
الوزراء الشجعان وزير رمى الوعد من أول ولايته وحتى آخرها. وصار الآن المرشّح الأقوى لرئاسة الجمهورية. لم يفلح وزيرٌ واحد، حتى "المعمِّرون" من بينهم في الوزارة، أن يتقدّموا خطوةً واحدة نحو "الأربع وعشرين على أربع وعشرين ساعة". جميعُهم أخفقوا، فكوفئوا بمناصب أعلى، أو رحلوا، من دون حسابٍ ولا سؤال. فكانت مرحلة ما بعد الحرب أشبه بمرحلة الحرب، كأنها الحرب ما زالت جارية؛ نسمع اليوم عن أخبار العالم بأن زلزالاً، أو إعصاراً، أو فيضاناً، أو نزاعاً مسلحاً، أية كارثة من كوارث الطبيعة أو الإنسان.. كان من ذيولها انقطاع الكهرباء. ويمكن النسج على هذا الخبر بأن لبنان تنقطع فيه الكهرباء، على الدوام، بغير انتظام، من دون سبب من تلك الأسباب؛ اللهم الذي تلوّح به شركة الكهرباء، كلما ارتفع معدل الانقطاع إلى حدٍّ لا يُطاق، في مواسم معينة، تكون الكهرباء في أثنائها مقطوعة نهائياً من "شدّة الضغط"، أي الاستهلاك: إما في الصيف، إذ يحضر "السواح" والمهاجرون، أو في فصل الشتاء، عند أول شتْوة، كما عند آخرها. وقد استُحلق أخيرا اللاجئون السوريون، فأضيفوا إلى السواح والمهاجرين والشَتَوات.
يدفع اللبنانيون اليوم فاتورتين كهربائيتين: الأولى، الرسمية، إلى الشركة، والثانية "خاصة"، إلى صاحب القدرات أو المبادرة الذي اشترى مولداً، يوزّعه على سكان الحيّ بأسعارٍ تتراوح بين الخمسين والمائة دولار شهرياً، مقابل خمسة "أمبير"؛ أي ما يزوّدك بالإنترنت، والهاتف النقال ولمْبتَين والبراد (الثلاجة). ولا تحسب رائحة المازوت المنبعثة من كهرباء "الاشتراك"، ولا طنين آلتها.. ولا تحسب الخسائر السّرية لهذا الانتقال من كهرباء رسمية إلى كهرباء أهلية، بطاقاتٍ ضعيفة، أو قوية، أو متوسطة.. على كل الأدوات الكهربائية، بما يعطّلها باكراً، فلا يبقى غير استبدالها بأخرى جديدة.
"نفسياً"، إذا جاز التعبير، وفي أفضل الحالات الكهربائية، أي عندما ينتظم الانقطاع بأوقات محدَّدة، تحت مسمّى "تقنين"، وهذه لحظات عزّ نادرة، عليكَ التخلص من "السترسْ" الملْحاح: أن تخرج في الأوقات الفلانية وتعود بها، لكي تتجنّب الانحباس في المصعد، أو مشقّة الأدراج، أو تشغل الغسالة من هذه الساعة إلى تلك، أو البرّاد، أو .. واللهث خلف تلك الساعات المبارَكة يعلّمك المرونة والتكيف على حساب أعصابك. ومع ذلك، تكون في غاية السعادة بها. المهم أنها أتتْ، تلك الكهرباء...
ولكن من أين تأتي بالمرونة والتكيّف عندما تنقطع الكهربتان؟ الرسمية والأهلية؟ وفي عتْمة ليل بارد؟ وأنتَ قد تخلّصت من البدائل الكهربائية الأخرى، بصفتها "بدائية"؟ ماذا تفعل ساعتها؟ ماذا تقول لنفسك؟ كيف تنصحها؟ طبعاً، تفكر بالشمعة، بـ"اللوكس"، بالبطارية التي أهملتها، لأنها مكلفة، وفات زمنها.. وأنتَ عالقٌ هكذا، من دون ماء، ولا تدفئة، من دون أية صلةٍ بالخارج.. تجد نفسك ضائعاً، حائراً بأي تكيّف يمكن أن تتكيّف؟ بأي فحم يمكن أن تتدفأ؟ بأي عيونٍ يمكن أن تنظر؟ لا شيء من هذا كله. فقط فراغ في العقل، وليل حالِك، ثم انتظار. وحكايات لا تنتهي عن الكهرباء، تسلّينا عندما نسردُها بروح المرونة إياها، وكأنها نكتة. وإلا فكيف نتكيَّف؟ من أين نأتي بالموارد النفسية، لـ"نصمد"، لكي لا تنهار معنوياتنا، لا تُصاب روحنا، من ذاك الأذى الذي ينخرها، وبات الآن عمره نصف القرن؟
حسناً الآن. كيف كانت الكهرباء من زمان؟ الزمان القريب أقصد: زياد أبو الريش، المتخصص في تاريخ الكهرباء في لبنان، يزيل أوهام نوستالجيا قبل الحرب، والقائلة إن الكهرباء كانت تماماً. تقول دراسة أبو الريش إن الكهرباء في لبنان، ومنذ الانتداب الفرنسي، كانت موضع صراع، 
ولكن الفرق بين ذاك الزمن والآن أن عمال الكهرباء و"الطبقة الوسطى" لعبوا دوراً محورياً في تحسين الأداء الكهربائي وتخفيض فاتورته. كان العمال يضربون عن العمل، وكان المستهلكون يمتنعون عن استخدامها، عندما لا يجد الاثنان ضالتهما في الكهرباء. وكان السياسيون يتنافسون على إرضائهما. كان هذا يحصل في ظل الانتداب الفرنسي، كما في العهد الاستقلالي. مثلا، في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، قام الرئيس كميل شمعون بتأميم شركة الكهرباء "وسيلة لتعزيز رصيده الإصلاحي". الآن، لا العمال، ولا المستهلكون لهم صوت في القضية. العمال أصابهم العجز الطائفي، وعجز الخصخصة غير المعلنة لشركة كهرباء لبنان، فيما المستهلكون لم يعودوا بدورهم "طبقةً وسطى" قادرةً على الانتظام من أجل "مصلحتها"؛ إنما شعب ضائع بين الطوائف، موزّع بين الوفاء لزعمائها، وبين رمي اللوم على الطائفة الأخرى في الفشل الكهربائي. و"الشعب" فوق ذلك، وأكثر من أي وقت مضى، تتوقف حياتُه لو توقفت الكهرباء، أو استغنى عنها بإضرابٍ ولو لساعة، فهو أصلاً غير مصدِّق أنها شغالة.
خلاصة الموضوع أن الكهرباء مثل القدر الحداثي، تقوم على معادلةٍ بسيطة: تغيب الآن الطبقتان، الوسطى والعمالية، خلف أسوار الطوائف والخصخصة. ولتستعيدا حيويتهما، تحتاجان إلى دولة. أي إلى قانون ومؤسسات وقضاء مستقل وشفافية. والكهرباء هي نتاج الحداثة الغربية التقنية، وصلت إلينا في نهاية حكم العثمانيين. وهي تفترض، كما تشير المعارك الناجحة والفاشلة، حداثة سياسية ترافقها. أي قيام الدولة بمعنى الكلمة. من دون اقتران الاثنتَين، لن تحلّ مسألة الكهرباء، ولو قتل الواعدون أنفسهم في حمْلنا على تصديقهم. إنها حلقة مفرغة، قدرٌ من أقدار التاريخ، أن ننعم نسبياً، اسمياً، قلبياً.. بالتكنولوجيا، أي الحداثة التقنية، من دون الدولة، أي الحداثة السياسية. ومطلع الاستقلال كان أكثر استجابةً لهذا الطلب العادل، وكان شعبه وقادته أقرب إلى فهمه، والعمل على أساسه؛ تغذّيهم وثْبة موروثة عن العثمانيين والفرنسيين. ولكن الآن، من أين يأتون بالوثبة؟