عولمةُ البلطجة السياسية العربية

عولمةُ البلطجة السياسية العربية

03 أكتوبر 2019

متظاهر بين شرطة مكافحة الشغب في هونغ كونغ (1/10/2019/Getty)

+ الخط -
على الرغم من الحصاد المأساوي لثورات الربيع العربي، إلا أنها لم تخل من ''مبتَكَرات'' اجترحتها الأنظمةُ الحاكمة والنخبُ المتحالفة معها لحماية مصالحها من تبعات الارتجاج الذي أحدثته هذه الثورات، وبالتالي، تجديد بنيات الاستبداد العربي وتغذية دينامياته على غير صعيد. ومن هذه المبتكرات ظاهرة البلطجة السياسية التي أسقطت ورقة التوت عن معظم هذه الأنظمة، وكشفت حقيقتها واستعدادها للقيام بأي شيء مقابل بقائها في الحكم. 
مناسبة الإتيان على ذلك ما تداولته وسائل الإعلام الدولية، قبل أيام، بشأن خروج مظاهرة مؤيدة للحكومة الصينية في هونغ كونغ، على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها منذ أشهر، وتَسبب في اندلاعها إقدامُ حكومتها المحلية على طرح مشروع قانون بشأن تسليم المطلوبين للعدالة إلى الصين. ولعل اللافت في الواقعة أن الصين من أكثر الدول تشددا مع قضايا الحريات السياسية، خصوصا فيما يتعلق بالتظاهر السلمي. ما يعود إلى الطبيعة الشمولية والمركزية للنظام السياسي الصيني الذي يكاد لا يسمح بأي هامشٍ لمعارضته أو انتقاد سياساته الداخلية والخارجية، فيكاد التظاهر يكون غائبا عن الثقافة السياسية الصينية التي تجر خلفها إرث هيمنة الحزب الشيوعي على الدولة والمجتمع منذ 1949. وتحتفظ الذاكرة المعاصرة بالقمع المفرط الذي ووجهت بها انتفاضة ساحة تيانامين (1989) التي طالبت بالديمقراطية والانفتاح، في غضون متغيرات كبرى كان تشهدها بلدان المعسكر الشرقي آنذاك.
من هنا، تثير المظاهرةُ التي خرجت تأييدا للحكومة الصينية في هونغ كونغ تساؤلات كثيرة في ضوء التقاطب الحاد الذي تشهده الأخيرة بين الحراك الشعبي المطالب بالحفاظ على النظام السياسي والقانوني المتبع في المستعمرة البريطانية السابقة والحكومة الصينية التي تبدو أكثر ارتهانا لوضعها قوة اقتصادية كبرى محكومة بتقاطبات النظام الدولي. وربما ليس من المجازفة الزعم أن البلطجة السياسية، كما تبلورت في تجربة الربيع العربي، قد تكون أحد المصادر التي ألهمت الحكومة الصينية في تعاطيها مع احتجاجات هونغ كونغ التي يبدو أن استمرارها سيكون مكلفا للصين.
وفي ذاكرة الثورات العربية عيناتٌ من هذه البلطجة التي عكست مخاوف الأنظمة والقوى الاجتماعية المصطفّة حولها من انعطاف هذه الثورات صوب كل ما من شأنه أن يُحدث تغييرا جوهريا في ميزان القوى السياسي والاجتماعي. ونتذكر كيف شكّلت ''موقعة الجمل'' منعطفا حاسما في مسار الثورة المصرية، إذ أشّرت الانتكاسة التي مني بها الإنزال الذي قام به نظام حسني مبارك وحلفاؤه في ميدان التحرير، في القاهرة، على تهاوي هذا النظام، وهو ما حدث بعد أيـام.
وعادة ما تُشرف على أوراش البلطجة السياسية أجهزة أمن خاصة يُمولها الرأسمال الفاسد، فيتم تسخير المجرمين والخارجين على القانون لترهيب الناشطين والمعارضين السياسيين المطالبين بالديمقراطية والحرية والكرامة. وبذلك تصبح البلطجة سلاحا سياسيا واجتماعيا خطيرا، لأنه يدفع قضايا الأمن والاستقرار والسلم الأهلي إلى الواجهة، في تهديد صريح لأي حراك شعبي.
وربما ليس مبالغة القولُ إن المظاهرة التي خرجت تأييدا للحكومة الصينية في هونغ كونغ تدلُّ على فعالية البلطجة السياسية العربية، تحشيداً وتعبئةً وإنزالا في الساحات والميادين. كما تدل، أيضا، على نجاحٍ صيني في استيراد أحد أكثر الفصول سوادا في كتاب السياسة العربية، مع ما يعنيه ذلك من اعتراف ضمني بالفعالية السياسية لهذه الوسيلة، وقدرتها على إحداثِ اختلال في ميزان القوى داخل الشارع، وخلطِ الأوراق وإحداث انقسامٍ داخل الرأي العام الذي يتابع الأحداث في الصين وهونغ كونغ. ويبدو أن خيار قمع احتجاجات هونغ كونغ، والذي سبق أن لوّحت به الحكومة الصينية قبل فترة، له تكلفة سياسية واقتصادية باهظة، قد تتجاوز حدود الصين نحو مكانتها الاستراتيجية في النظام الدولي. ولذلك آثرت بِكين البحث عن خياراتٍ أخرى لمواجهة هذه الاحتجاجات.
يعرف العالم صعودا ملحوظـا للنزعات العسكرية والاستبدادية، وهو ما بات يفرض تحدّياتٍ جديدة على الأنظمة، ما يدفعها إلى البحث عن حلول لمواجهة الاحتجاجات الشعبية التي تنشد التغيير، ولعلها تجد في البلطجة السياسية العربية ما يُسعفها في ذلك.