لماذا جاستن ترودو؟

لماذا جاستن ترودو؟

20 أكتوبر 2019
+ الخط -
يتوجّه الناخبون الكنديون غداً الاثنين، 21 من أكتوبر/ تشرين الأول، إلى صناديق الاقتراع، في رحلة فارقة للمستقبل السياسي الكندي، تُذكّر بالحدث الذي صعد فيه الحزب الليبرالي في أكتوبر 2015، وسقط فيه الشخصية الأبرز في تاريخ المحافظين الكنديين حينها، ستيفن هاربر الذي يقارن اليوم بترامب أو يقارن به ترامب، لكن بقفازاتٍ ناعمة أكثر ذكاءً من الرئيس الأميركي.
الأهم في هذا الصدد أن أندرو شير، وكتلة الحزب الصلبة، لم تتغير سياستها عن ذلك العهد، خصوصا بعد إسقاط محاولة إصلاحية من داخل حزب المحافظين نفسه، راهن كنديون عرب على تغير نسبي بين المحافظين، يحقق نوعاً من التوازن لمفاهيم العدالة الاجتماعية، للمواطنين الكنديين بكل توجهاتهم، خلافاً للفكر الأيدولوجي الأبرز تاريخياً، والذي تديره القوة السياسية العميقة في حزب المحافظين.
وهنا عودة إلى تحديد نقاط مهمة، في الحياة السياسية الكندية، بلغة فكرية، لا تحليل سياسي ميداني:
أولا، نحتاج التذكير، قبل الاستطراد، بأن مساحة الحقوق وفرص اللجوء للمعذّبين والمطاردين في الأرض، وليس المسلمين وحسب، حققت صعوداً كبيراً في عهد الحزب الليبرالي الجديد الذي قاده الشاب جاستن ترودو. ولكن التاريخ السياسي الاجتماعي في كندا لا يزال مؤثرا، وهو يقوم على القوة الغربية التي قهرت الإنسان الأصلي للهنود الحمر، وهي نزعة تلعب دوراً مهماً اليوم، في وجدان هذه الغالبية الاجتماعية وقاعدتها الصلبة. وثمة التنافس الشرس والحسّاس، بين هذه القاعدة الاجتماعية الفرنكوفونية في كيبيك والأنجلوسكسون في مقاطعات أخرى. ولهذه النزعة آثارها في الاستقطاب الذي لا يمنع هذه الغالبية من التحالف ضد اللاجئين الجدد، وحقوق السكان الأصليين الذين سعت كندا، وبالذات في عهد ترودو، إلى رد الاعتبار لهم، وتحسين ظروفهم، لكن احتياجاتهم بعد آثار الإجرام التاريخي ضدهم لا تزال أكبر بكثير من الوعود والمشاريع.
وتتأثر وحالة الأنجلوسكسون في كندا بالواقع الأميركي أكثر من الحياة السياسية الاجتماعية في
 أصلهم البريطاني، بين المواطنين الإنكليز من أصل شرقي، مسلم وغير مسلم، وهنا نجد تجاوب المحافظين مع اليمين في أميركا وأوروبا وحتى أستراليا الأبرز في عدائها للمهاجرين. وفي المقابل، ينزع اليمين الكيبيكي الذي ينتمي للقومية الفرنسية، ويحرص على التمسّك بها، إلى محاكاة اليمين المتطرّف في فرنسا. ولذلك نَفّذ مشروعه بإلزام المسلمات الكنديات نزع الحجاب، في مؤسسات الحكومة الكيبيكية المحلية، أو طردهم من عملهم، وأصبح هذا القانون سارياً بالفعل.
المسار الآخر هو الأزمة الاقتصادية ونسب الضرائب التي تؤثر على الناخبين كثيراً، ويستخدمها الحزب المحافظ لإسقاط الحزب الليبرالي، وإسقاط ترودو شخصيا، ولكن تجربة الحكم المحلي اقتصاديا في أونتاريو، والتي جاءت بعد تسلم حزب المحافظين الحكم المحلي، أعطت دليلاً على أن هذه القضية كانت سياق مزايدة، وليس لدى المحافظين، على الأقل في المنظور الحالي، مساحة حقوق اقتصادية، أو رأفة بالمواطنين الأقل دخلا، وليبرالية السوق الاقتصادي المتوحشة مشتركة بين الحزبين، فهل هناك فارق مع ترودو؟
هنا نعود إلى قضية عنوان المقال، فما يقال عن فشل ترودو في كبح مؤشرات الوضع الاقتصادي، وقضية البطالة التي يُنظر إليها في المجتمع اليميني المؤثر، له سياقان: الأول، القاعدة الصلبة في الحياة السياسية الكندية، وتغوّل المصالح النفعية الرأسمالية في كلا الحزبين. والثاني، إشكالية السوق الكندي ذاته، وعلاقته بالاقتصاد الأميركي شدّاً وجذباً، وما يترتب عليه، من تأثير معنوي ضاغط على الكنديين من أصل غربي، علماً أن ضيق الغربيين من شرائح العمل المختلفة في كندا من المهاجرين لا يعكس أي حالة تميز لأولئك العمال، فاليوم فُرص الوظائف نادرة، واستغلالهم في أوقات دوام طويلة هو السائد للاجئين. ولكن المراقب لحياة ترودو السياسية يدرك تماماً أن الرجل يمثّل ما بقي من فلسفة حقوق الآباء المؤسسين لوثيقة الحريات الكندية، بمن فيهم والده، وأنه على المستوى الشخصي لا يمثل ذلك الرأسمالي، المتعلق بأي فرصة تحقق تقدماً اقتصادياً، على حساب الكنديين المهاجرين والعمال، فهناك حملات عنيفة على ترودو تحت هذا الأفق، تستهدف إسقاطه شخصيا.
هنا يبقى لدينا الفارق الأكبر، والرئيسي في حياة الكنديين المهاجرين ومستقبل مواطنتهم، وخصوصا المسلمين منهم، فأحد أهم الأسباب المعلنة لحملة اليمين على ترودو وإسقاطه شخصيا موقفه المتضامن المستمر مع الكنديين المسلمين، وحقوقهم ومراعاته خواطرهم، وسلاسة 
الإجراءات لتأمين حقوقهم في مسألة الإقامة والجنسية، نعم هناك مساحة دستورية قديمة لم يُحدِثها ترودو، بل هي سابقة له. ولكن جاستن ترودو اليوم أصبح بالفعل ممثلاً مرحلة سياسية اجتماعية مهمة، تستظل بها الإنسانية المطاردة، في ظل تهديداتٍ شرسة وأيدولوجيا يمينية تتبنى العنف، من دون أي رادع قانوني دستوري، تتمكّن من كندا، فمعركة إسقاط ترودو، عبر فشل الحزب الليبرالي اليوم، تخفي وراءها نيات استراتيجية داخل اللعبة الكندية، بما فيها تحييد ترودو نهائياً عن الحياة السياسية، وفتح المجال أمام يمين الحزب الليبرالي والعودة إلى لعبة السوق المتوحش.
وهذا لا يعني أن ما يجري في كندا يقوم بالضرورة على قواعد مبادئ، ولكنه قياس مصالح موسمية مهمة، فأضحت رسالة التصويت الإيجابي ذات بعد مهم، التخلف عنها من مسلمي كندا وشركائهم، من مواطنة التعدّد لا مواطنة القومية المتغلبة، مسألة مصير لحقوق الأجيال الجديدة لأبنائهم. وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي الجديد، ثالث الأحزاب السياسية في كندا حضوراً، يملك قاعدة مبادئ يمكن أن تبنى عليها شراكة إنسانية واجتماعية للموزاييك الكندي. ولكنه في حالة ضعف وفشل إداري، ليس بسبب وجود حالة تعدّد عرقي لقيادته، فهذا جانبٌ مشرق، لكن لأجل اللغة السياسية الخاصة والتداول الحقوقي الذي يحتاجه المجتمع الكندي، وما لم تكن لهذه الروح كتلة صلبة في المجتمعيْن، الغربي والمهاجر، مع إيمانها بالمبدأ، فلن تستطيع مطلقا أن تقيم توازنا في ظل زحف اليمين المتطرّف.