عندما يصل الربيع العربي إلى لبنان

عندما يصل الربيع العربي إلى لبنان

20 أكتوبر 2019
+ الخط -
جاءت المظاهرات الاحتجاجية العفوية التي تشهدها مختلف مدن لبنان وبلداته بمثابة الرد الشعبي المباشر على "عنطزة" جميع رموز نظام المحاصصة الطائفية اللبناني وغطرستهم، والفساد المستشري فيه. وبالتالي، يمكن القول إن ما يحدث في لبنان يعبر عن نهاية مرحلة حكم طائفية سياسية بأكملها، وانحطاط هذه المرحلة، وأفول مقولاتها ومقوماتها ومركباتها. ولم يكن قرار فرض ضريبة على مكالمات "واتساب"، ومثيلاته من أنظمة التواصل الاجتماعي، سوى الشرارة التي أطلقت المظاهرات، وعبرّت عن حراك شعبي واسع، غير مسبوق، امتدّ إلى مختلف الحواضر اللبنانية، واستطاع كسر الحواجز الطائفية والمذهبية، والوقوف ضد رموز حكمٍ باتوا يعتاشون على افتعال الأزمات، وتوليدها وإنتاجها على حساب غالبية اللبنانيين. وليس جديدها الحرائق الواسعة (140 حريقاً)، والتهمت مساحات كبيرة من غابات لبنان، وسبقتها أزمات وهزات عديدة، لعل أشهرها أزمة جمع النفايات التي حوّلها رموز الحكم السائد إلى أزمة مديدة، تضاف إلى أزمات التركيبة الطائفية وإرهاصاتها، ولا تنحصر في الأزمات المعيشية، وطاولت الخبز والمخابز ومحطات الوقود، وشحّ الدولار، ومخزونات الأدوية، وسوى ذلك كثير.
وصلت، إذن، رياح الربيع العربي التي أنتج ثورات عديدة، ولم تهدأ مفاعيلها بعد، إلى لبنان الذي كان بعضهم يدّعي حصانته أمامها، بالنظر إلى تركيبته الاجتماعية وخصوصيته. كان يردّد هذا
 الكلام أتباع مختلف الأنظمة العربية وأزلامها، ولكن الحراك الاحتجاجي الشعبي لا يعرف الخصوصية، طالما أن النظام مبني على الفساد والغطرسة والتسلط. ولذلك من الطبيعي أن يرفع لبنانيون، أيضاً، شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، تأثراً بالثورات العربية، على الرغم من أن النظام في لبنان مركب وهش، وأقرب إلى اللانظام، إذ لا نظام موحداً ومتماسكاً أو صلباً في لبنان، فكل فئة أو طائفة، صغيرة أم كبيرة، محكومة بشبه نظام ألعن من شبه النظام الذي يتحكم بالفئة أو الطائفة الأخرى، فنظام حزب الله أشد توتاليتارية وثيوقراطية من نظام الحزب العوني (التيار الوطني الحر)، المجسّد بأحطّ صوره في شخص زعيمه الراهن، صهر رئيس الجمهورية، الوزير جبران باسيل. ولا يخرج نظام الطائفيين الآخرين عن إطار هذه الصورة.
ولعل انحطاط نموذج المحاصصة الطائفي اللبناني تجسّد، مرة أخرى، في خطابات رموزه، حيث خرج الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، على الشاشة، لينذر المحتجين من محاولة إسقاط "العهد"، بوصفه الضامن له، والمتحكّم فيه والمسّير له أيضاً. وخرج آخرون على الشاشات المتلفزة، كي يزيفوا الوقائع والحقائق، بإعلان أن الحراك الشعبي ليس موجهاً ضد فسادهم وغطرستهم، وأنهم يعملون على إصلاحاتٍ تأخذ في اعتبارها مطالب المحتجين، بينما كان ردّ الحراك الاحتجاجي الغاضب إحراق صور رموز الحكم ومقرّات حزبية عديدة. ويأتي الحراك الاحتجاجي اللبناني في وقت لم تهدأ فيه بعد احتجاجات العراقيين على نظام المحاصصة الطائفية في بلدهم، والذي يتحكّم في قواه السياسية السائدة نظام الملالي الإيراني، مثلما يتحكّم بالقوى السياسية المسيطرة على نظام المحاصصة الطائفية اللبناني. ولذلك يمكن القول إن ما يحدث في لبنان هو احتجاج ورفض من جماعات المهمشين اللبنانيين على سياسات أهل الحكم وممارساتهم، وعلى الأزمات الاجتماعية العميقة، وعلى التمييز والبطالة المقيمة.
وقد عبّر اللبنانيون المنسيون والمهمشون عن حالتهم المزرية، وعن مطالبهم، بالقول "نريد العيش 
بكرامتنا في هذا البلد، وأنا لا أستثني أحداً من المسؤولين في لبنان، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، جميعهم مسؤولون عن ما آلت اليه أوضاعنا نتيجة فسادهم وإفسادهم"، الأمر الذي أيقظ أهل الحكم المتغطرسين، كي يروا بأم أعينهم لبنانيين يقفون في وجوههم، ويشيرون بأصابع الاتهام نحوهم، ويجرّدونهم من الزيف الذين يلبسونه، ومن التفاهة والعجرفة اللتين باتتا مأوى دائماً لهم.
ولم يجد بعض رموز نظام المحاصصة الطائفي، من أمثال الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، سوى اللجوء إلى التذكير بالتكلفة الدموية للاحتجاجات، والركون إلى نظرية المؤامرة التي لجأ إليها نظام القتلة في دمشق، وأدخل سورية في دوامة القتل والدم، كي يحتفظ مثل عُتاة الطغاة بالكرسيّ، ودمرّ البلد وأغرقها بدماء السوريين. ولذلك قد لا تبدو مصادفة محضة أن يأتي الحراك الاحتجاجي اللبناني، بعد أيام قليلة على إبداء باسيل رغبته في زيارة طاغية سورية، الأمر الذي يُذكر بزيارة المخلوع السوداني عمر البشير، والاحتجاجات السودانية التي أعقبتها، وأوصلت المذكور إلى السجن.
وعلى الرغم من كل التكهنات، فإن الحراك الاحتجاجي المستمر في لبنان هو الأوسع في احتجاجات هذا البلد، ولم يشهد هذا البلد سابقاً مثيلاً له. اتسم بالسلمية، ولم يُرفع فيه علم حزب أو جهة معينة. ولا يستطيع أحد الادعاء بأنه يقف وراءه، ولا أي حزب أو تيار أو حركة، أو نقابة أو اتحاد عمالي أو مهني، ولا حتى أي منظمة أو أيٍّ من هيئات المجتمع المدني، كونه حراكاً شعبياً عاماً، ليس موجّهاً ضد شخص، أو جهة بعينها، كما يحاول بعضهم تصويره، بل ضد جميع أهل الحكم ورموزه، ويعبّر عن انحطاط النموذج السائد. انحطاط المحاصصة الطائفية المقيتة، إضافة إلى أنه يظهر مدى احتقان كتلة شعبية هائلة في لبنان، مأزومة وقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي مقنع لها في التركيبة الطائفية السياسية، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنىً وتأثيراً، ويدمجها في الفضاء العام.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".