انتفاضة لبنانية؟

انتفاضة لبنانية؟

19 أكتوبر 2019
+ الخط -
فجأة انتفض لبنان. ربما قد يكون الخبر الأبرز في البلاد منذ التظاهرات الكبيرة صيف 2016 ضد تراكم النفايات في الشوارع. لم تكن ليلة الخميس ـ الجمعة عادية لدى اللبنانيين. لم تشتعل الشرارة بسبب ضريبة قدرها 20 سنتاً يومياً (6 دولارات شهرياً) على المكالمات على الإنترنت، من "واتساب" و"سكايب" و"ميسنجر" وغيرها. قد تكون هذه الضريبة القشّة التي قصمت ظهر البعير، ولكن الأمور ليست متعلقة بهذا الأمر فقط، بل بتراكماتٍ مكثفة، تحديداً في سياق "الأخذ من الناس من دون مقابل". يحق لأي دولةٍ محترمةٍ فرض ضرائب على المواطنين والمقيمين، ولكن لا يحق لها أن تحوّل تلك الضرائب إلى جيوب حكامها ومسؤوليها. في لبنان، تفرض الدولة ضرائب كثيرة، ولا يرى الشعب أي مقابل. يدفع فاتورة الكهرباء مرتين، والمياه مرتين، ولا مواصلات عامة، ولا طرقات حقيقية، والطبابة كأنها من الكماليات. التعليم الرسمي لا يُقارن بالتعليم الخاص، لا بالمناهج ولا بالبُنى التحتية. المسبّبات كثيرة للاحتجاجات، ولكن محاولة كسر الخوف كانت أكبر. الاحتجاجات التي شهدتها المناطق اللبنانية عابرة للطوائف والأحزاب، على الرغم من محاولة بعضهم "ركوب الموجة"، ومنهم إعلاميون وسياسيون تربطهم علاقات خاصة بأطرافٍ سياسيةٍ دون أخرى. لا يهم، ففي أدبيات التاريخ وعلم الاجتماع: إذا الشعب ثار فلن يرحم، حاكماً أصيلاً، ولا حاكماً وكيلاً، ولا "راكب موجة".
ضد من يثور اللبنانيون؟ هناك من يعتبر أن المشكلة مرتبطة بـ"العهد"، أي رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه. ويرى آخرون أن الحكومة هي المسؤولة، أي رئيسها سعد الحريري وفريقه. ويؤكد بعضهم أن الثنائي، رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، هما من ركائز الفساد الأساسية. وثمّة من يرى في الأحزاب الأخرى، مثل القوات اللبنانية وتيار المردة وحزب الكتائب وغيرها، الأصل في الأزمة الحالية. ويؤكد أصحاب رأي آخر أن حزب الله وعملياته الإقليمية هي ما منعت تطوّر لبنان وقيام الدولة فيه.
جميل.. ولكن جمال الحقيقة يكمن في رؤيتها كاملة. "كلن يعني كلن"، أي أن الجميع تورّط، بشكل أو بآخر، بوصول البلد إلى ما هو عليه، وكل من يجهّل دور فريق ويسلط الضوء على فريق آخر هو جاهل أو عامل على ضرب الحراك الشعبي اللبناني، أو على تبرئة فريق سياسي لإعادة إنتاجه سلطوياً. لا حل أمام اللبنانيين سوى إطاحتهم جميعاً، وسحبهم من بيوتهم وقصورهم والسيطرة على شركاتهم الفاسدة وتأميمها، وسجن من سرقهم وحَكَمَهم باسم الطوائف والعشائر والعائلات. لا حلّ من دون الإمساك بالمنظومة المصرفية التي تمصّ دماءنا. لا حلّ سوى في اعتبارهم جميعاً "بنك أهداف"، والتصرّف على هذا الأساس. لا حلّ سوى بطرد الإعلاميين الكاذبين، تحديداً الذين تربطهم علاقات تجارية واقتصادية مع نواب وأحزاب. لا حلّ سوى بإقفال البلد حتى انتصار الشعب.
ولكن، هل سيصمت هؤلاء الذين أمضوا عقوداً يبنون ويحفرون في "الدولة العميقة"، وعلى جنباتها؟ طبعاً لا. أولهم جنبلاط الذي تصرّف وكأنه خسر معركة سياسية ضد حزب الله، داعياً، في حديثٍ تلفزيوني مساء الخميس ـ الجمعة، الحريري إلى الاستقالة "وتركهم يحكمون". وفي ذلك، يسعى رئيس الحزب الاشتراكي إلى سحب غطاء الطائفة الدرزية عن الاحتجاجات العامة. وفي دعوته الحريري بالمثل يعني انطباق الأمر على الطائفة السنيّة. طبعاً، ستكون الجهة المقابلة لجنبلاط أكثر من مسرورة بخطابه. ومن الطبيعي أن آخرين سيقومون بالأمر عينه، فتحويل الاحتجاجات الشعبية وأهدافها الإنسانية إلى معارك طائفية هو سرّ وجود النظام اللبناني، وسرّ ديمومة أحزابه وشخصياته وإعلامييه.
كيف سينتهي كل شيء؟ نحن في لبنان، يا سادة، لم ننهِ شيئاً، لا سلاماً حقيقياً ولا حرباً فعلية. كل شيء يبقى معلّقاً حتى إشعار آخر، لكن أيامنا الأخيرة فتحت كوّةً أمام تغيير جذري، لو ننفذ منه فقط.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".