في هشاشة الأحزاب وتآكلها

في هشاشة الأحزاب وتآكلها

18 أكتوبر 2019
+ الخط -
تبدأ السياسة العملية بالإشارات الصغيرة والرمزية، ولكنها تكون مقدمة لعمل كبير على المستويات، السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحقوقي، خصوصا في الظرفيات والسياقات التي تعرف فيها المجتمعات الصاعدة ديمقراطيا أزمات ومشكلات عويصة في القطاعات الاجتماعية الاستراتيجية. وهو ما يحتّم على مجمل المكوّنات السياسية، ليبرالية أو إسلامية أو يسارية، أن تقوّي صفوفها، وتوسّع قواعدها، وتصلّب تماسكها، وتتخلى عن جملة من المواقف الجاهزة والدوغمائية، وتتواصل، بطرق وأشكال جديدة، مع عموم المواطنات والمواطنين. ومن موقع الملاحظ المتتبع للحقل الحزبي المغربي على الأقل، هناك هشاشة وضعف، وتفكك وتشتت في الرؤى والبرامج وطرق العمل، بالنسبة لمعظم الأحزاب المغربية. وفيما المرحلة الراهنة، وطنيا ومغاربيا وعربيا ودوليا، هي في صالح كل القوى الديمقراطية الحقيقية، إلا أنه لا بد من تعامل ذكي وبراغماتي، ولا يجب أن تشكل هذه المنهجية عقدةً لدى بعضهم، خصوصا قوى اليسار، بدليل التخلي عن الثوابت والمبادئ والمرجعيات المؤسسة لهوية كل مكون.
يفرض السياق الموضوعي على الأحزاب والقوى المدافعة عن دولة المؤسسات، واحترام الحريات وحقوق الإنسان، التحلي بالمرونة الفكرية والتنظيمية وبالحوار المنتج، وبالتفكير الاستراتيجي والاستباقي، بشأن القضايا الحيوية والانشغالات الأساسية التي تهم الوطن والشعب، لتفادي العزلة السياسية والنفور والعزوف الانتخابي الذي أصبح ردّا صريحا من شرائح واسعة من الشباب المتذمر، من مضامين السياسات العمومية المتبعة في مجال التشغيل والصحة والتعليم.
ومهما استثمرت مختلف الأحزاب الشرعيات التي تستظل بها، ومهما تسلحت بترسانةٍ من الذرائع، 
وحمّلت جزءا من مسؤولية تدهور العمل السياسي واختناقه، ومحدودية المشاركة الانتخابية، للدولة ومؤسساتها المنتشرة في كل مكان. وهذه مسألة أثيرت تاريخيا في المغرب، لا سيما من أحزاب اليسار، وحامت حولها علامات استفهام كثيرة، غير أن على مجمل الأحزاب أن تعترف بأن جزءا مهما من إخفاقاتها، وانتكاس العمل السياسي، وتتفيه المحطات الانتخابية، وإفراغها من مضمونها ورهاناتها الديمقراطية والرقابية، وانتشار ثقافة العزوف وعدم الثقة، كامن في ذاتها، وفي طريقة تدبير أجهزتها وتواصلها مع المواطنين، وارتهان ما يمكن تسميته تجاوزا الاجتهاد الفكري والنظري في ممارستها، للمناسبات الانتخابية ومواعيد المؤتمرات الوطنية، طبعا إن احترمت الآجال المحددة لها. ولكن هذه الأحزاب تقيم جدارا سميكا بينها وبين المجتمع والواقع، وتصم الآذان عندما تكون هناك هزّات سياسية، وحراكات اجتماعية، تتطلب منها تسجيل مواقف صريحة، والتعبير عن تصوّرها قصد احتواء التداعيات والآثار الجانبية.
وفي تبنّي أحزابٍ عديدة نظرية المؤامرة، والحديث عن وجود مخططات تسعى إلى تقزيمها وتهميشها وتدميرها (وهذه فرضيات ما زال بعضها صحيحا حتى تثبت الوقائع عكس ذلك) هروبٌ من حقيقة الواقع الحزبي ذاته، وما يحبل به من علل وأعراض، وتغطيةٌ على الأعطاب التنظيمية المزمنة، والبياضات الفكرية والتآكل الأيديولوجي، والصراعات الشخصية المفضوحة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في أية حكومة، وما يتبعه من حروبٍ طاحنة، مرتبطة بتوزيع الحقائب الوزارية وبالمصالح الضيقة المكشوفة التي تؤجل انبثاق أي رؤيةٍ لفعل سياسي حقيقي للتجديد، ولبلورة تعاقد جديد تجاه المجتمع. علما أنه، عندما تكون هناك رؤية وفلسفة ومشاريع وبرامج وأفكار محدّدة يلتف حولها الناس، يمكن للحزب السياسي، حتى لو كان لا يتوفر على مواصفات الحزب التاريخي الكبير، أن يستقطب الناس، ويقنع الغاضبين والساخطين بجدواه ومصداقيته السياسية، وقربه من المواطنات والمواطنين. وهذه واحد من العناصر القوية التي تشكل الأساس الصلب لاستراتيجيته التواصلية. ويمكن أن يتحمّل مسؤولية تدبير الشأن العام بكل ثقة في النفس. وعندما تغيب هذه الرؤية، يصعب ويتعذّر، حتى على من يمتلك من مواصفات القيادة قدرا وافيا من الكاريزما، ومن الخيال السياسي، الوصول إلى تحقيق أداء متميز، وقيادة القواعد بطريقة مقنعة وسلسة، لأن ما يهم الناس هو الابتعاد عن لغة النفاق، وعدم تحويل العمل السياسي إلى مصدر ريع واستثمار ملتبس، تختلط فيه السلطة بالمال.
تدرك النخب الحزبية في المغرب، وفي المنطقة المغاربية التي تعيش لحظة تاريخية مفصلية، خصوصا في تونس والجزائر، أنه لا مناص من تحيين الأهداف والمفاهيم والتحاليل والتوجهات، ووضع القواعد المتينة لإعادة البناء الأيديولوجي والبرنامجي الضروري. وتحديد التحالفات على قاعدة الوضوح والانسجام والتوافقات الأيديولوجية والفكرية. وهذه شروط أساسية لأي اكتساح سياسي بالمعنى الإيجابي للكلمة، ومدخل حيوي للحصول على جهاز سياسي عصري وفعال، يمكّن من تبسيط طرق الاشتغال، واتخاذ القرار. ومن شأن هذا الأمر أن يعطي القوة والمناعة لتصور الحزب للنموذج الاجتماعي، ويطلق الحوار والمواجهات الفكرية مع الجمعيات والنقابات وكل التعبيرات المجتمعية. ومن هنا، يبدأ مشروع أو مشاريع تكوين أقطاب منسجمة، تحظى بالمصداقية، وتعكس التحولات الاجتماعية، وتتفاعل مع التحولات والمشكلات المطروحة على أكثر من صعيد.
لا يمكن أن يتحقق أي مشروع إلا عبر البناء المتين، والارتباط بالانشغالات البسيطة واليومية للناس والثقة في النفس، والواقعية في العمل والمشروع والوعود القابلة للتنفيذ، وتكريس ثقافة 
الاعتراف بالأخطاء والانزلاقات. والتعود على النقد الذاتي، والانفتاح على تيارات الرأي داخل المجتمع، علما أن خيار الاكتفاء بالشعارات، وتبخيس المبادرات الفكرية المنتجة واحتقارها، لا يمكن أن يصوغ مشاريع وبرامج، تجيب عن سؤال السياسة، والمسألة الاجتماعية والاقتصادية، ومعضلة التشغيل، والصحة والتربية، وحرية الإعلام والعدالة والمساواة، والحكامة الإدارية واستحقاق التحول الديمقراطي، والتنوع اللغوي والتعدد الثقافي... إلخ. وكما أن العواطف الجياشة والملتهبة لا يمكن أن تصنع استراتيجيات، فإن الفاعل الحزبي، أو القائد السياسي الذي يتجنب قول الحقيقة للجماهير، لا يمكن أن يكون قائدا من الناحية الشعبية والسياسية والأخلاقية.
التحولات الصادمة اجتماعيا ونفسيا وثقافيا، وتناسل جملة من الأزمات، بما فيها الأزمة الاقتصادية. وانتشار مشاعر الإحباط، وعدم الثقة في المؤسسات، جعلت معظم الأحزاب تعيش حالة من الكسل والاكتئاب السياسي، تنظيريا وتنظيميا وتواصليا، على الرغم من الاستهلاك المبالغ فيه، وغير المعقلن أحيانا، للخطابات والوعود ذات الصلة بالانتخابات، وتحويل الأخيرة إلى مصباح علاء الدين السحري، علما أن الانتخابات وحدها لا تصنع ديمقراطية.
يطرح هذا الوضع سؤالا أساسيا ومركزيا واستفزازيا على الأحزاب السياسية التي يشكو معظمها من أزمة الهشاشة والتآكل، بخصوص قدرتها الفعلية على إحداثٍ قطيعة فعلية مع واقع السلبية واللامبالاة التي ميزت الاستحقاقات التي شهدتها وتشهدها عدة دول في المغرب الكبير، بما فيها المغرب، وأيضا بخصوص اقتراحاتها لتأمين الشروط الضرورية لاسترجاع الثقة في العمل السياسي، وإعادة الاعتبار لسؤال السياسة والمشاركة الانتخابية، وإقناع المواطنين بأهمية الانخراط الملتزم والواعي في مختلف الاستحقاقات، بهدف رفع تحدّيات التنمية الاقتصادية، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتوفير شروط المشاركة الواعية لتحصين وتعميق الاختيارات الوطنية الأساسية، المتمثلة أساسا في البناء الديمقراطي، عبر الإصلاحات المؤسساتية والسياسية الضرورية، باعتبار هذه العناصر مقوماتٍ جوهرية لإحقاق العدالة الاجتماعية، وبناء دولة الحق والقانون. كما يتعلق الأمر هنا بكسب رهانات التنمية المستدامة عن طريق نهج الحكامة الجيدة، والانخراط المسؤول والواعي للمواطنين، في تحديد البرامج وتنفيذها، وتقييم نجاعتها ومراقبة مردوديتها.
اللافت أن الحقل السياسي في المنطقة المغاربية، والذي تناسلت فيه مئات الأحزاب إلى درجة 
الميوعة والعبث، كما في تونس التي صار عدد الأحزاب فيها يتجاوز 220 حزبا، شهد ويشهد تحرّكات لفاعلين سياسيين، بغية تشكيل تحالفات وأقطاب حزبية وتكتلات تحكمها حسابات تكتيكية براغماتية، أكثر منها حسابات استراتيجية. غير أن سحبا كثيفة من الغموض تشوّش على رادارات هؤلاء الفاعلين الذين صدمهم الشارع بمواقفه الغاضبة، فهل هناك آفاق وإمكانات واضحة لصياغة تحالفات واقعية، خصوصا بعد أي استحقاق انتخابي، توخيا للعقلانية والانسجام والنجاعة؟ وما هو حجم الفرص الممكنة لإعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، والذي يتقاطع في كثير من خصائص والصفات وأشكال الممارسة والتفاعل والتواصل؟ من المسلّم به أنه إذا توفرت الشروط الذاتية والموضوعية، واجتمعت أسباب النهوض بهذا الورش السياسي والأساسي في دول المغرب الكبير، فإن هذا سيشكل مؤشرا على نضج الحقل السياسي، واتجاهه نحو تشكيل أقطاب كبرى، تتجاوز التحالفات الظرفية ذات الطابع التكتيكي، والتي يمليها عادة المنطق الانتخابي.