تونس.. المشهد السياسي في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية


تونس.. المشهد السياسي في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية

17 أكتوبر 2019

إعلان نتائج الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية في تونس (14/10/2019/Getty)

+ الخط -
أسفرت نتائج الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في تونس، والتي نظمت يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عن فوز المرشح قيس سعيد على منافسه نبيل القروي بفارق كبير في الأصوات. وتأتي نتيجة الانتخابات الرئاسية بعد أسبوع واحد من تنظيم انتخاباتٍ برلمانيةٍ أفرزت تصدّر حركة النهضة قائمة الفائزين، من دون تحقيق أغلبيةٍ تسمح لها بتشكيل الحكومة بمفردها. وفي النصف الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تتحدّد الملامح الأولية للمشهد السياسي والمؤسساتي الجديد، غير أنّ تفاصيل كثيرة تظل رهينة التفاهمات والتوافقات المتوقعة لتشكيل الحكومة، ولطبيعة العلاقة بين الرئيس من جهة والبرلمان والحكومة من جهة ثانية.
فسيفساء برلمانية ومخاض حكومي عسير
أسفرت نتائج الانتخابات البرلمانية التي نُظمت يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عن تشظّي الخريطة الحزبية، وتصدّر حركة النهضة قائمة الفائزين بحصولها على 52 مقعدًا من إجمالي مقاعد البرلمان البالغ عددها 217 مقعدًا، يليها حزب قلب تونس بـ 38 مقعدًا، ثم التيار الديمقراطي بـ 22 مقعدًا، فائتلاف الكرامة بـ 21 مقعدًا، وحلّ الحزب الدستوري الحر خامسًا بـ 17 مقعدًا، وحركة الشعب سادسًا بـ 16 مقعدًا، وحركة تحيا تونس سابعًا بـ 14 مقعدًا. أما بقية القوائم الفائزة، فقد حصلت على عدد مقاعد يُراوح بين مقعدٍ واحدٍ و4 مقاعد لكل منها؛ ما يعني عدم قدرتها على تكوين كتلٍ خاصةٍ بها في البرلمان القادم، واضطرار نوابها إلى الانضمام إلى كتل أخرى أو البقاء مستقلين.
حافظت كتلة حركة النهضة على تصدّر الكتل البرلمانية منذ 2011. وكانت الحركة قد حصلت على المرتبة الثانية في انتخابات 2014، إلا أنّ كتلتها سرعان ما عادت إلى المرتبة الأولى، بعد أن تفكّكت كتلة حزب نداء تونس. وعلى الرغم من تصدّرها قائمة الفائزين في الانتخابات 
الأخيرة، فقد سجّلت تراجعًا بـ 17 مقعدًا قياسًا بانتخابات 2014، حيث حصلت حينها، على 69 مقعدًا. وفي السياق ذاته، سجّلت نتائج الانتخابات البرلمانية أخيرا تراجع أغلب الأحزاب التي اقتسمت النصيب الأكبر من مقاعد البرلمان السابق، فقد شهد حزب نداء تونس الذي أسّسه الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، تناقصًا كبيرًا في عدد نوابه، وتراجعت مقاعده من 86 مقعدًا عام 2014 إلى ثلاثة مقاعد فقط في الانتخابات الأخيرة، وغابت الجبهة الشعبية التي يتزّعمها حمة الهمّامي (تحالف أحزاب وشخصيات قومية ويسارية) عن المشهد البرلماني الجديد، بعد أن كانت تحوز 13 مقعدًا، وهو الأمر ذاته بالنسبة إلى ائتلاف "تونس أخرى" المدعوم من الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي. وخرجت أحزاب أخرى خالية الوفاض، أيضًا، بعد أن كانت صاحبة كتل في البرلمان السابق، على غرار حزب الاتحاد الوطني الحر. أمّا حزب مشروع تونس، المنشق عن حزب نداء تونس، فلم يحصل سوى على ثلاثة مقاعد، بعد أن كانت كتلته في البرلمان السابق تعدّ 15 نائبًا.
وفي المقابل، سجّلت أحزاب تقدمًا ملحوظًا في الانتخابات البرلمانية أخيرا مقارنة بانتخابات 2014، فقد ارتفع عدد مقاعد التيار الديمقراطي من ثلاث في عام 2014 إلى 22 مقعدًا، ليحلّ ثالثًا بعد حزبَي النهضة وقلب تونس. أمّا "ائتلاف الكرامة" (ائتلاف يتبنّى خطاب الثورة) فقد مثّل إحدى مفاجآت الانتخابات، حيث حلّ رابعًا بـ 21 مقعدًا على الرغم من حداثة تشكيله، وتمكّن من حيازة نسبة معتبرة من أصوات الناخبين، خصوصا في الولايات (المحافظات) الجنوبية. وفي السياق ذاته، زاد عدد نواب حركة الشعب من ثلاثة في انتخابات 2014 إلى 16 في الانتخابات الأخيرة، في حين حصل الحزب الدستوري الحر (المحسوب على المنظومة القديمة) على 17 مقعدًا.
يتضح من خلال توزيع مقاعد البرلمان الجديد مفعول القانون الانتخابي الذي يعتمد آلية "التمثيل النسبي مع أفضل البقايا" في توزيع أغلب المقاعد، حيث تم تحصيل 163 مقعدًا بأفضل البقايا مقابل 54 مقعدًا بعدد أصوات كامل. وتعدّ حركة النهضة، والأحزاب الحاصلة على المراتب الأولى أكبر المتضرّرين من هذه الآلية، حيث يعادل المقعد الواحد بالنسبة إلى حركة النهضة 10790 صوتًا، في حين حصلت قوائم أخرى على مقعد واحد بـ 600 صوت فحسب. وبمقارنة رصيد حركة النهضة التي تصدّرت قائمة الفائزين، من الأصوات بعدد المقاعد التي أحرزتها، يتضح أنها حصلت على 31% من الأصوات مقابل 23% من المقاعد.
وبقدر ما ساعدت آلية "التمثيل النسبي مع أفضل البقايا" الأحزاب والائتلافات الصغيرة والقوائم المستقلة في ضمان قدرٍ من الحضور في المشهدين البرلمانيين، السابق والجديد، فقد أفرزت، مقابل ذلك، مجلسًا نيابيًا مشتتًا وفسيفسائيًا، ومنعت جميع الأطراف المرشحة من تحصيل أغلبيةٍ تسمح لها بتشكيل حكومةٍ قادرةٍ على الاستمرار والصمود. وتتأكّد صعوبة المهمّة التي تنتظر الحزب الذي سيكلَّف بتشكيل الحكومة، وهو في هذه الحال حركة النهضة، مع عدم قدرته على بلوغ النصاب المطلوب لنيل ثقة البرلمان، حتى لو أفلح في عقد توافق مع قوائم أخرى. وتصبّ جميع تصريحات قياديّي حركة النهضة في اتجاه رفض الدخول في أيّ تحالفٍ حكومي مع حزب قلب تونس الذي حلّ ثانيًا، والحزب الدستوري الحر الذي حلّ خامسًا، مقابل الإبقاء على احتمالات التحالف مع التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة وحزب تحيا تونس قائمة، غير أنّ المواقف الغالبة على تصريحات قياديّي كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي تصبّ، حتى الآن، في اتجاه رفض هذا التحالف.
وفي كل الأحوال، يظل تشكيل حكومة، بمشاركة حركتي النهضة والشعب والتيار الديمقراطي 
وائتلاف الكرامة وحزب تحيا تونس ومستقلين قائمًا. وقد تجد حركة النهضة نفسها مجبرة على اختيار رئيس حكومة من خارج صفوفها، لتتجاوز تحفّظات الأطراف الأخرى. وفي حال تواصل رفض التيار الديمقراطي وحركة الشعب الدخول في تحالف حكومي مع حركة النهضة، وعجز الأخيرة عن نيل ثقة الأغلبية البرلمانية، سيكون على الرئيس قيس سعيد تكليف من يراه الأقدر على تشكيل الحكومة. وفي حال مرور الأجل القانوني بعد التكليف الثاني، من دون نيل الحكومة ثقة البرلمان، يمنح الدستور الرئيس حق حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة. وفي كل الأحوال، يظل الاحتمال الأخير ضعيفًا، نظرًا إلى تكلفته السياسية المتوقعة على الأطراف الرافضة للتوافق، في حال تمّت الدعوة إلى انتخابات جديدة.
قيس سعيد: انتصار كبير وتوقعات أكبر
لم تكن النتيجة التي أسفر عنها الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية عاديةً بكل المقاييس، فأغلب التوقعات واستطلاعات الرأي التي سبقت يوم الاقتراع كانت تعطي نسبًا متقاربة للمرشحَين، قيس سعيد ونبيل القروي. وفي أقصى الحالات، كانت تمنح سعيد تقدّمًا على منافسه، غير أنّ فوز الأخير بنسبة 72.71% من أصوات الناخبين تجاوز كل التوقعات، بما فيها توقعات أنصاره. ولم يكن الفوز بفارق عريض المفاجأة الوحيدة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، بل أضيفت إليه نسبة المشاركة العالية، قياسًا إلى الانتخابات البرلمانية والدور الأول من الرئاسية؛ ففي حين بلغت نسبة المشاركة 45% في الدور الأول من الرئاسية، و41% في البرلمانية، فقد ارتفعت إلى 55% في الدور الثاني من الرئاسية. وتظهر الإحصائيات التي نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أنّ ارتفاع النسبة العامة للمشاركة رافقه ارتفاعٌ في نسبة مشاركة الفئات الشابة. وكانت المدن الكبرى، حيث تتركز أغلب الجامعات، قد شهدت حملاتٍ تطوعيةٍ لتسهيل تنقّل الطلبة إلى مناطقهم الأصلية للإدلاء بأصواتهم، على نحوٍ ساعد في الرفع من نسب مشاركة الشباب الذين أبدوا نفورًا نسبيًا من التصويت في مناسبات انتخابية سابقة.
وعندما تم الإعلان عن النتائج الأولية التي أظهرت تقدمًا كبيرًا لقيس سعيد على منافسه نبيل القروي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، شهدت جلّ المدن التونسية مظاهر احتفالية كبيرة؛ ومثّل الفوز الذي حققه سعيد والاحتفالات الواسعة التي رافقت الحدث ظاهرة شدّت انتباه المراقبين، لأسباب عدة؛ منها افتقار الرجل أيّ إطار تنظيمي أو ماكينة حزبية، إضافة إلى التلقائية التي طبعت الاحتفالات، على الرغم من أنّ أحزابا، منها النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب، أعلنت دعمها قيس سعيد، ودعت منتسبيها وأنصارها إلى التصويت له في الدور الثاني.
وفي السياق ذاته، حافظ قيس سعيد، منذ إعلان ترشّحه، وحتى بعد فوزه، على تأكيد استقلاليته والنأي بنفسه عن أيّ انتماء حزبي، وعلى التذكير بدعوته المتمثلة في ضرورة تعديل نظام الحكم القائم على المركزية، والعمل على انطلاق المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية من الأطراف والمناطق الداخلية، عبر آليةٍ ترتكز، أساسًا، على المجالس المحلية. ويعدّ خطاب سعيد، في هذا الجانب، أحد الأسباب التي جلبت له نسبة معتبرة من أصوات الناخبين، خصوصا في المناطق الداخلية التي تشهد صعوباتٍ اجتماعيةً واقتصاديةً وضعفًا في الخدمات والبنى التحتية، وسخطًا على النهج التنموي الرسمي منذ ما قبل الثورة، حيث راوحت نسبة المصوّتين لصالحه، في الولايات الجنوبية، بين 90% و97%.
لم يكن انحياز خطاب قيس سعيد إلى الفئات الشابة والمناطق المهمشة الرافد الوحيد الذي جلب له نسبة كبيرة من أصوات المقترعين، فقد رفض، طوال الحملة الانتخابية، تلقّي تمويلاتٍ من 
أطرافٍ سياسية ورجال أعمال ومؤسساتٍ مالية واقتصادية، وحرص على التحلّي بالبساطة والزهد، والتميز من بقية المرشحين الذين نظّموا حملاتٍ باذخة، واستغل موقعه في مواجهة منافسٍ محسوبٍ على المنظومة القديمة، وتتعلق به شبهات الفساد والتهرّب الضريبي. وإضافة إلى ذلك، تميّز خطاب قيس سعيد بالحسم في المسائل المثيرة للجدل، والتي حاول مرشحون آخرون اتخاذ مواقف وسطية وعامّة منها، فقد أعلن، بوضوح، رفضه التطبيع مع إسرائيل، وعدّه "خيانة عظمى"، وعارض مشروع قانون المساواة في الميراث الذي قدّمه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وهو رفض جلب إليه أصوات شريحةٍ معتبرةٍ من الناخبين المحافظين.
وتمكّن قيس سعيد، بأسلوبه التواصلي المخصوص، من تقديم صورة جديدة تختلف عن الصورة النمطية للسياسي التقليدي، وكسب ثقة نسبة مهمة من التونسيين، غير أنّ ارتفاع سقف التوقعات من الرجل، في سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي مأزوم وضاغط، يحمّله مسؤولياتٍ قد لا تتناسب مع صلاحياته الدستورية المحدودة، خصوصا في ظل افتقاره إلى حاضنةٍ تنظيميةٍ وحزبيةٍ وبرلمانية، وفي ظل الضبابية التي ما زالت تكتنف طبيعة الحكومة القادمة ومكوناتها. كما أنّ نمط السلوك الشخصي قد يصلح لجذب الأصوات، لكنه ليس سياسة ولا منهجًا في الحكم، ويبقى في النهاية مسألة مظاهر.
وفي هذا السياق، يظل تعويل قيس سعيد على إحداث تغييراتٍ عميقة في النظام السياسي والمؤسساتي، وفي المنوال التنموي، رهين قدرته على كسب دعم برلماني من الكتل الكبيرة لتمرير مشاريع القوانين؛ وهو دعمٌ قد يتطلب حساباتٍ ومقايضاتٍ وتخفيضًا لسقف الخطاب الذي ميّز حملته الانتخابية. كما أنّ حلول القضايا الاجتماعية والاقتصادية في تونس لا تكمن في صياغة الدستور. وحتى لو أمضى الرئيس المنتخب حياته المهنية أستاذًا للقانون الدستوري، فهذا لا يعني أنّ تغيير الدستور يحلّ جميع المشكلات.
خاتمة
بصدور نتائج الانتخابات، الرئاسية والبرلمانية، دخل المشهد السياسي والمؤسساتي التونسي طورًا جديدًا تبدّلت فيه معادلاتٌ كثيرة ظلّت قائمة منذ الثورة، فقد أسفرت مخرجات الصندوق في الانتخابات البرلمانية عن تقلّص نصيب أطرافٍ سياسيةٍ تصدرت نتائج انتخابات 2014، وخروج أخرى خالية الوفاض، وصعودٍ نسبيٍّ لأطراف ثالثة، وهو ما يُنذر بمشهد برلماني متنافر يصعب، في ظله، الوصول إلى توافقٍ لتشكيل فريق حكومي قادر على الأداء والاستمرار. أمّا في الانتخابات الرئاسية، فقد أحدث المرشح قيس سعيد المفاجأة، بحصوله على نسبةٍ غير مسبوقة من أصوات الناخبين، ما يحمّله مسؤوليةً كبرى لتلبية تطلعات الشارع إلى إحداث تغييراتٍ عميقةٍ في المجالَين، السياسي والتنموي، في ظل صلاحياته الدستورية المحدودة، وحاجته إلى معاضدة برلمانية حكومية غير مضمونة، حتى الآن، للوفاء بتعهداته.
وأخيرًا، تكمن في النفور من الأحزاب والنخب السياسية مخاطر شعبوية على الديمقراطية. وحتى لو كانت كثرة الانشقاقات والتجوال الحزبي والانتهازية السياسية من أهم أسبابها، إلّا أنّه لا بديل من النخب السياسية والأحزاب في الديمقراطية التعدّدية في عصرنا.