تركة ترامب السورية

تركة ترامب السورية

16 أكتوبر 2019
+ الخط -
بخروج الولايات المتحدة، تدخل الحرب في سورية مرحلة جديدة، عنوانها وراثة النفوذ الأميركي في مناطق شرق الفرات. الولايات المتحدة دخلت الحرب في سورية في سبتمبر/ أيلول 2014، لتقود تحالفا دوليا للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. حاول بعض أركان إدارة ترامب (طُردوا جميعا) تطوير أهداف هذا التحالف، بعد استيفاء الغرض منه، بضم عناصر أخرى له، مثل التصدّي لإيران، ومنعها من إنشاء كوريدور برّي بين العراق وسورية، واستخدام الوجود الأميركي ورقة ضغط باتجاه حل سياسي، الا أن الرئيس ترامب المشغول كليا بمعاركه الداخلية كان غير معنيٍّ بذلك، وهو لم يفكر حتى بمقايضة الوجود الأميركي، مثلا، بالوجود الإيراني الذي زعم محاربته في سورية. قرّر، في نهاية المطاف، سحب كامل قواته، والاحتفاظ بوجود عسكري صغير في قاعدة التنف جنوب شرق البلاد على الحدود مع الأردن والعراق، تاركا الآخرين يتقاتلون على التركة. 
بخروج الأميركيين، تغيرت كل ديناميات الصراع، كما حصل تماما عندما دخلت روسيا الحرب عام 2015. وفيما ألجأ التخلي الأميركي الأكراد على العودة إلى قواعدهم الأصلية في حضن روسيا، ليطووا بذلك صفحةً أخرى من تاريخٍ حافلٍ بخيبات الأمل الكبرى، كانوا فيها سقط متاع في سوق السياسة الدولية، غدت سورية مرتهنةً بالكامل للتفاهمات، أو الصراعات، بين أقطاب عملية أستانة الثلاثة (تركيا وإيران وروسيا).
خلال المرحلة السابقة، اتفق الروس والإيرانيون والأتراك على أمر واحد: ضرورة إخراج أميركا من سورية، كلّ لغاياته، وقد نجحوا في ذلك. الأتراك لأنهم رأوا في أميركا عائقا دون تحقيق هدفهم في القضاء على وحدات حماية الشعب، الكردية، عدوهم الأكبر في سورية. روسيا لأنها ترى في أميركا عقبةً أمام استفرادها كليا بالملف السوري الذي تريد، باستعادة مناطق شرق الفرات الغنية بالنفط والغاز والمياه، طي صفحته كليا وإعلان انتصارها على "المؤامرة الأميركية". وإيران ترى في بقاء أميركا خطرا على نفوذها في سورية والعراق، وعقبة أمام استكمال مشروع ربط مناطق نفوذها عبر المشرق العربي. أما وقد خرجت الولايات المتحدة فقد غدا شركاء أستانة الآن في مواجهة بعضهم، يتنافسون على اغتنام أكبر جزء من التركة الأميركية، السباق إلى منبج وعين العرب مثالان فقط على هذه الدينامية الجديدة في الحرب السورية، والتي تشبه نهايات أكثر الحروب، حيث يتسابق المتبقون في ساحة الصراع على أكبر جزء من الغنيمة.
السؤال الآن هو كيف سيحل شركاء أستانة تناقضاتهم، بعد أن نجحوا في طرد أميركا من سورية، وتهميش دور أوروبا والعرب فيها، هل يتكرّر سيناريو إدلب، ويدخلون في صراع وكالة دموي يدفع السوريون ثمنه، أم يتكرر سيناريو عفرين و"درع الفرات"، ونشهد وفقا لذلك "يالطا سورية" يتقاسم فيها المنتصرون غنائم حربهم؟ يرجّح السلوك الروسي الذي بات يمسك خيوط اللعبة كلها السيناريو الثاني، على الرغم من أن الرئيس بوتين لم يُخف يوما رغبته في إخراج الجميع من سورية، والاستئثار بها كلها.
وفيما تدخل الدول الثلاث المنتصرة في الحرب السورية مساوماتٍ ومفاوضات توزيع غنائمها، يجد السوريون، أصحاب الأرض والقضية، مادة جديدة ينقسمون حولها، فهذا يشتم ترامب وينعته بالخيانة، لأنه تخلى عن الأكراد، بعد أن استخدمهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وآخر يشتمه لأنه أخلى الساحة لإيران وروسيا، وثالث يؤيد العملية العسكرية التركية من باب موقفه المتفهم احتياجات تركيا الأمنية والسياسية، ورابع يعد العملية التركية غزوا واحتلالا لأراضي سورية، ويتخوّف من احتمالات ضمها، وخامس يتخوّف من إقامة المنطقة الآمنة، ويرفض توطين اللاجئين السوريين فيها، باعتبار ذلك تغييرا ديمغرافيا يقضي على كل أمل بعودة اللاجئين والمهجّرين إلى أراضيهم وبيوتهم. وسط كل هذا الجدل، يستطيع المرء أن يميز بسهولة معسكرين كبيرين بين السوريين اليوم: معسكري إيران وتركيا، "سوريي المرشد" "وسوريي السلطان" (غساسنة ومناذرة، إذا شئنا الاستعارة من تاريخ العرب قبل الإسلام). إذا دققنا أكثر، يمكن أن نميز معسكرا ثالثا يحاول أن يرفع صوته لاستعادة المبادرة، والحفاظ على ما تبقى من أشلاء وطن، ضيّعته المطامح، والمزايدات، وقتلته الأحقاد والغرور وضيق الأفق، وتركته فريسةً تتناهشه الدول والتنظيمات، لكن الصوت ما زال ضعيفا، خافتا، وسط المعمعة.