المصيبة ألا يعي السوريون مصيبتهم

المصيبة ألا يعي السوريون مصيبتهم

15 أكتوبر 2019
+ الخط -
"إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، أو كنت تدري فالمصيبة أعظم". رحم الله قائلها الإمام ابن القيم في وصف الجنة، فقد أصبح هذا البيت أمثولةً ترددها الأجيال، لما تحمل من قيمة معرفية وأخلاقية، مع العلم أن ما سبقها مباشرة لا يخلو من أهمية، خصوصا إذا ما أسقطنا المعنى على الحالة السورية الراهنة، وكذلك السنوات التسع السابقة، "فيا بائعًا هذا ببخسٍ معجلِ، كأنك لا تدري، بلى سوف تعلم".
الحقيقة المؤلمة التي أظهرتها سنوات الزلزال السوري هشاشة الشعب السوري ونسيجه المجتمعي المتهالك الذي اهترأ وتشظى باكرًا في عمر الأزمة، وانكمش إلى جماعات وفرق وطوائف وغيرها من تقسيماتٍ تجاوزتها الحياة البشرية المنتظمة في دولٍ تنتمي إلى العصر، والأمرّ هو الارتهان إلى جهاتٍ خارجيةٍ من كثيرين ممن تبوّأوا مناصب مسؤولة، وكان لديهم جمهورهم وأتباعهم من عامة الشعب، يسيرون خلفهم ويتلقون أقوالهم مسلمات، وتفضيل الانتماء إليها على الانتماء إلى وطنٍ تم "بيعه" عوضًا عن مداواة جراحه ورتق فتوقه وترميم تصدّعاته ودعمها، وحتى البيع كان بـ"بخس معجّل"، وأبخس منه المؤجل. ولم يتعلم السوريون، في أي مقلبٍ كانوا، من أي تجربة قديمة أو حديثة، لم يتّعظوا ويفهموا أن الاعتماد على الغير، أيًا كان هذا الغير، لن يجلب سوى الخسران، خسران الوطن وقبله خسران الذات والكرامة التي ستظهر فداحتها عندما تصمت المدافع ويعم الصمت فوق الخراب الذي خلفته حروبٌ تُدار مباشرةً، أو بالوكالة، على أرضنا، وقودها دماء هذا الشعب وأرواحه، بعد أن استقوت جميع الأطراف بالأجنبي بلا استثناء، واحتكرت الوطن والوطنية.
مؤسفٌ أن يرى السوري المشهد يعيد نفسه، ويستنسخ كما لو كان صورة تتكرّر، مشهد قتل 
المدنيين من سكان المنطقة الشرقية، حيث تدار الحرب بين مكونات الشعب السوري ضد بعضه بعضا، في الغزو التركي أراضي سورية، الصورة نفسها، صورة القتل بمتعةٍ وتلذّذ، كما أظهر الفيديو الذي عرضته يوم السبت (12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) بعض المحطات، وتلقفته مواقع التواصل الاجتماعي، مقاتلين "سوريين" يُعدمون رميًا بالرصاص "سوريين آخرين" بنشوة عارمة، ويطلب أحدهم من زميله في القتل أن يصوّره، وهو يمارس هذا الطقس، كما لو أنه يعد مشهدًا سوف يبثه على مواقع التواصل، ويباهي الآخرين به، فأي ضلالٍ هذا؟ تكرّر هذا المشهد كثيرًا على مدى السنوات التسع الماضية، ومارسته كل الأطراف المتحاربة، وكان الشعب يراقب، حتى إن أجيالاً كبرت وشبت على تيمات القتل والعنف والثأرية ومفهوم العداء الذي تكرّس بين مكونات الشعب، سنواتٍ أوشكت أن تكمل التسع والدم السوري مستباح، والسوري يقتل السوري، والشعب السوري برمته في الداخل والخارج يتابع مسلسل القتل، ويشهد على الضغينة التي تستعر، ويستعر العنف معها، وينقسم السوريون إلى مهلل للقتل وشامت بالآخر الذي أصبح عدوه الوحيد الذي أعمته عداوته عن أن يبحث عن الحقيقة، مع أن أطرافها بين يديه، لو أراد أن يراها ويمسكها، وإلى مستنكر للقتل عندما يمارس بحق جماعته بالطريقة نفسها فيتوعد ويهدّد، مع أن الصورة نفسها، صورة أطفال سورية وهم يقتلون، نساء سورية يُسمن المهانة والذل، شبان سورية وهم يساقون إلى حمل السلاح في وجوه إخوتهم، أو 
يفرّون إلى المجاهيل الأكثر رأفة، مهما كانت قسوتها، حتى لا يتورّطوا بدماء بعضهم بعضا.
لا أفهم كيف يمارس السوري القتل، وكيف يقتل إخوته وشركاءه في الوطن، مهما بدر من بعضهم، لأن الحقيقة السافرة أن كل شرائح الشعب السوري مارس بعضها سلوكًا مشابهًا، وقتل ما قتل من الجماعات الأخرى التي يعاديها بحجّة أن كل الجماعة التي ينتمي إليها هذا البعض كتلة صلدة صمّاء تستحق الانتقام والقتل. وها هو العدوان في المنطقة الشرقية يعيد الحالة الملطّخة لجبين كل سوري ينتمي إلى وطنه خالصًا من كل انتماء آخر. لا توفر الحرب من هذا النوع أحدًا. وعلى عادة الحروب التي تدار على سورية، وبأفراد شعوبها، فإن الإنسان لا يشكل أكثر من رقم مهمل، يبدو قتله الجماعي من ضروراتها، لا يهم كم ستقتل كل غارة من المدنيين وكم ستشرد من عشرات الآلاف، حتى صارت كلمة "نازح" ترادف تمامًا كلمة "سوري". على مر سنوات تسع، والسوريون يسيرون في البراري تحت الهجير والعواصف والأمطار والثلوج، وكل شراسة الطقس والمناخ على شكل قوافل تبدو بلا نهاية، يموت من يموت في رحلة التيه التي لا يعرفون إلى أين ستوصلهم.
ما جرى ويجري على الأراضي السورية، في شرقها اليوم، هو اتفاق محكم بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية بزعامة رئيس أرعن جامح، اعتاد أن يضرب عرض الحائط بكل أشكال الأعراف الدولية والسيادة والدبلوماسية، على الرغم مما رشح وطفا على السطح، بل ومما أعلنه صراحةً وتهديده تركيا فيما لو قامت بالعملية العسكرية التي أطلقت عليها "نبع السلام"، وما يحمل هذا العنوان من ازدواجية فاضحة وجريئة، فكيف لحربٍ أن توصل إلى السلام؟ لم يكن ما جرى وليد اللحظة، ولم يكن من دون تواطؤ واتفاق مسبق يقضي بأن تغض أميركا الطرف عمّا ستقوم به تركيا، مع إطلاق التهديدات والوعود والتصريحات المتناقضة أحيانًا أو المتردّدة من الرئيس الأميركي الذي اعتاد العالم على تغريداته وتصاريحه التي لا يخجل من تناقضها. وها هو أخيرا يأمر بسحب ألف جندي أميركي من المنطقة. وليست روسيا بعيدة عن هذا الاتفاق، فالسياسة تقوم على المقايضات، حتى العالم كله ضالع في هذه المأساة والقرار الفرنسي وقبله الألماني بالوقف الفوري لبيع السلاح الذي يمكن أن يستخدم في هذه الحرب التركية على سورية لا يعدو أن يكون كلامًا دبلوماسيًا منمقًا لامتصاص غضب الشعوب التي تنتفض لنصرة بعضها، من دون أن تكون صاحبة القرار المباشر، بما يفيد وقف بيع السلاح، والترسانة التركية وغيرها من ترسانات الأسلحة في المنطقة تنمو وتتضخم على مر العقود، مثلما لو أن الدول المصنعة للسلاح تنتج لتبيع دول هذه المنطقة من أجل أن تدير
 حروبها؟
تعيد هذه القوى الكبرى خلط الأوراق ثانية في سورية في واحدةٍ من جولات الصراع العالمي الذي يجنح نحو تغيير قواعد التحكم والسيادة في العالم، عالم ما بعد القطب الوحيد، وها هو بعبع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يعود إلى الواجهة، خصوصا مع بواكير هروب عشرات العناصر أو أسرهم من أحد السجون في عين عيسى تحت وابل القصف، البعبع الذي تاجرت به جميع الأطراف، حتى صار يشكل رعبًا للشعوب الغربية، ويصعد على أمجاده البطولية في العنف والقتل وكره العالم اليمين المتطرّف الذي يزداد تطرفًا في أوروبا، ويرفع قضية اللاجئين السوريين بوصفها أهم القضايا في بلاده، وتهدّد تركيا بفتح بوابات الجحيم، جحيم اللاجئين السوريين، على مصاريعها في حال لم يتفهموا هجومها على سورية، ويقرّوا بحقها في "محاربة الإرهاب".
إنها الحالة السورية التي تدعو إلى الجنون في تعقيداتها وسورياليتها وتداخلاتها وضلالها وتحالفاتها وعداواتها وغموضها وأسرارها التي سيتأخر التاريخ حتى يميط اللثام عنها. قد يكون من الصعب، أو المستحيل، على الشعب السوري في كل مناطقه وكل انتماءاته أن يعرف من المستفيد أو من الرابح الأكبر من هذه الحرب التي يمكن وصفها بالعالمية بامتياز، وأن يستطيع تفكيك عقد هذا اللغز المريع، ولكن ليس من المستحيل أن يعرف أنه الخاسر الوحيد، وأن كل ما قدمته الحرب هو الخراب ودمار وطنه وتهديم حياته وتبديد مستقبل أبنائه، فإن كان لا يعرف فتلك مصيبة، وإن كان يعرف ويصمت وينزلق مرة أخرى إلى الحروب البينيّة والتشفي والانتقام والاستقواء بالأجنبي والقتال لصالحه فالمصيبة أكبر. على السوريين، عربًا وكردًا، أن يعودوا إلى رشدهم، ويلملموا شتاتهم ويكبسوا على جراحهم، ويعرفوا أن لا مستقبل لهم ولن يكون لهم وطن ودولة إلّا إذا اتحدوا على هدف وحيد، بناء سورية الديمقراطية القادرة على احتضان كل أبنائها من دون ولاء أو انتماء إلا لها.