في الحاجة إلى قيس سعيد

في الحاجة إلى قيس سعيد

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
تُعد تونس البلد النموذج الأجمل لتجليَّات الربيع العربي. يلمع فيها الفائز الأول في الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة، قيس سعيد؛ الظاهرة المثيرة للبحث وللإعجاب معا، ليس في سمات شخصيته التي يغلُب عليها الصدق والنزاهة والجرأة، فقط، ولكن في الشعب التونسي الذي عمل على تظهير هذا النموذج، وبادلَه أملاً بأمل، وثقة بثقة.
أكاديمي في العلوم السياسية والقانونية، مستقل، ليس من الأغنياء حتى نقول استخدَم ماله، وليس من مُخرَجات الأوساط السياسية، وإن كان منخرطا في السياسة تدريسا وبحثا، حتى نقول دعمته قوى سياسية تقليدية؛ فنجاحه ليس إلا علامة أكيدة وخالصة على قدرة الشعب على تحدِّي منظومة الفساد، وعلى قدرته على ثقته بنفسه.
المهم، هنا والآن، الاستفادة من هذا النموذج، الفردي، كيف حقَّق هذا النجاح الجماهيري الواسع، من دون حزب يسنده، ومن دون استعانة بإعلام رسمي. وكيف تفوَّق على الأحزاب، بمقدار كبير من الانخراط الميداني الاجتماعي مع ناس بلده، وفقراء التوانسة. غير متعالٍ على همومهم، (كما تخطئ أحزابٌ عربية كثيرة، بوعي، أو بغير قصد)، مستمعا لهمومهم، مستفيداً من وعيهم، وممثِّلا له، أيضاً.
وفي هذا الملمح، غير الحزبي، يجسّد سعيد أيضا الرَّبيعَ العربيَّ؛ إذ لم يكن، أوَّل ما بدأ، بقيادة الأحزاب، ولو أنها أثّرت في الشعوب العربية، من جهة تبصير هذه الشعوب بحقوقها المضيَّعة، وضرورة التحرُّك من أجل تحصيلها. لكن هذه الأحزاب، بأمراضها، ومنها الجمود في الخطاب ولغته، والنزعات الضيّقة، بالتنافسات والمزاودات، غير النظيفة دائما، أقامت حاجزا بينها وبين الشعوب، أو أنها حدَّتْ من مقادير التقارُب. وهذا لا يُنقص من أهمية العمل المؤسسيّ، ولكنه يدلّ على قدرة الشعوب على تجاوز الأجسام السياسية والحزبية حين تكفّ عن أداء وظيفتها.

قيس سعيد معروف بالتواضُع ونظافة اليد، في سلوكه. طبعتْه دراستُه القانون بالنَّزاهة والحزم في مواقفه. وطبعه تكوينُه وانتماؤه بالاعتزاز باللغة العربية، محبًّةً، ولسانًا. وطبعه انتماؤه لقضايا أمَّته ثباتا من دون مساومة على فلسطين وحقوقها. جرَّم التطبيع مع إسرائيل. قال في المناظرة التلفزيونية بينه وبين منافسه نبيل القروي، "من يتعامل مع العدو يحاكم بتهمة الخيانة العظمى". وأوضح أن "القضية ليست مع اليهود، ونحن نتعامل مع اليهود الزائرين لمعبد الغريبة جنوب تونس وليس مع إسرائيل"، مذكِّرا بأن تونس حمت اليهود خلال الحرب العالمية الثانية من القتل. وتستعيد هذه الرؤية السياسية الخطّ الأصيل، والخيط الذي تكثّفت جهودٌ عربية، أخيرا، على تضييعه، أو تذويبه؛ التماسا لشرعيَّةٍ خارجية مفتقَدة، داخليا، أو مهزوزة.
لو كُتِب للرجل الفوز برئاسة تونس، وهذا مُرَجَّح، فهذا علامةٌ على إخفاق كلِّ الجهود المضادَّة التي بُذِلت، مشفوعةً، بالمال والإعلام المزيِّف، وبالتخويف والتخليط؛ من أجل وأد آمال الشعوب، وإضعاف ثقتها في قدرتها على اجتراح التغيير المنشود، ولو أن يكون هذا الإفشال، جزئيا، في بلد واحد، يتمتّع بصفة لصالحه، هي اللامركزية في الموقع، كما مصر وسورية، حيث التحدِّيات والعقبات الخارجية أكبر؛ لما لمصر وسورية العائدتين إلى إرادة شعبيهما الحقيقية من تداعيات مهمَّة، على المحيط العربي، وعلى شكل التعاطي مع دولة الاحتلال، سواء لجهة تحييد مصر عن النزاع معها، بالالتزام باتفاقية كامب ديفيد (سنة 1978) التي تقيّدها، أو لجهة تحييد سورية، فعليا، بالتزامها التام باتفاقية فكّ الاشتباك (1974).
صحيحٌ أنه لن يأمن، ومِن قبله بلدُه تونس، البلد الذي يعاني تحدياتٍ اقتصادية لا يُستهان بها، لن يأمن محاولات الإفشال، سيما وهو القادم من الوسط الأكاديمي، ومن أوساط الشعب، من دون تمرّس في ألاعيب السياسيين، ولكن مجرَّد فوزه يجدِّد الأمل، في دول جوار تونس، وفي المحيط العربي، بصفة عامة، بقدرة الشعوب، وبإمكانية التعويل على وعيها، وعلى فاعليِّتها، سيما جيل الشباب الذين عُرِف عن سعيد قربُه منهم، وثقتهم به. وهم بوعيهم ونشاطهم الفاعل يمكن أن يكونوا الحامي الأهم للمشروع الذي يتبنّاه؛ مشروعهم ومشروع الشعب، أيضا.
هذا يذكّر بما حدث في مصر، فبعد كلِّ الإنهاك والتضليل، كان المتظاهرون، أخيرا، بجرأةٍ تكسر حاجز الخوف الذي شيّده نظام عبد الفتاح السيسي، على أنقاض ضحاياه، من قتلى، ومن معتقلين (...). كان المتظاهرون الذين طالبوه بالتنحّي من الشباب غير المسيَّس في الأغلب، أو غير المنضوي في أحزابٍ معارضة.
هذا النموذج من الشخصيات المسؤولة تتعطَّش له الشعوبُ العربية، بما يقترب من الإجماع، على الأقل، في صفات النزاهة، والقرب من الناس، وهمومهم، لكن تراجُع آمال قسم من الشعوب العربية من فرص التغيير، وتراجُع الثقة بالشعارات الانتخابية التي غالبا ما تُنسى بعد الفوز، جعلهم يختصرون الطريق، إلى المفاضلة بين المتنافسين غير الخارجين عن الدوائر الرسمية التي تعيد إنتاج الفساد والإخفاقات، فلعل هذا النموذج أن يكون بارقة أمل على فرص معقولة لكسر هذا الطوق، واستعادة الشعوب صوتها الحقيقي المعبّر عن آمالها ومطالبها المشروعة.