في تحولات الكولونيالية الإسرائيلية وعنصريتها

في تحولات الكولونيالية الإسرائيلية وعنصريتها

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
لم تكن إسرائيل لتنشأ دولة طبيعية في أرض لها، بقدر ما سعى مكونو نشأتها، منذ البدء، إلى تظهيرها مشروعاً استيطانياً، يهدف إلى الاستيلاء على الأرض، وجلب مستوطنين أوجدوا كولونياليتهم الخاصة، في وقتٍ سعت المؤسسة الحاكمة إلى تحويلهم إلى أدوات مشروع تهويدي، معهم ومن خلالهم سوف يُصار إلى تغيير طابع المكان، عبر سلبه من أصحابه التاريخيين، وتحويله إلى وطنٍ مفترضٍ لمن زعموا دينيا أنه "الشعب المختار"، ولأغراضٍ وظيفية أمنية دنيوية، تلبي مطامح ومصالح من عملوا على إطلاق وعد إقامة دولة كولونيالية حارسة، قبل الإعلان عن قيامها بأكثر من ثلاثين عاماً (1917 – 1948).
واليوم وفي خضم واقعها المأزوم، ومن أزمة الانتخابات ونتائجها غير الحاسمة، إلى مأزق الاتهامات وما يمكن أن تفضي إليه في نهاية المطاف، يعيش النظام السياسي الإسرائيلي ما يمكن توصيفه بحالة من عدم التوازن، في غياب الفروق الجوهرية بين تيارات اليمين (واليمين المتطرّف) وما يسمى وسطاً أو يساراً، كنوع من القدح والذم بين أطراف العمل السياسي والحزبي الإسرائيلي، وهي تتجه جميعها اتجاهات دينية، أو هي بالأساس تمالئ الاتجاهات الدينية وتزايد عليها، فيما يسعى الجميع إلى ترسيخ نظام سياسي، ودسترته عنصرياً عبر "قانون القومية"، وفق الصيغة التي جرت الموافقة والمصادقة عليها، نافيا، وبتعمد واضح، أن تكون (الدولة) "دولة جميع مواطنيها"، وذلك في ممارسةٍ عنصريةٍ لنوع من الأبارتهايد المتوحش، الساعي إلى إخراج أصحاب الأرض الأصلانيين وتهجيرهم من وطنهم، وسلبهم
 حقوقهم المواطنية، كمواطنين لهم كامل حقوق المواطنة في وطنهم التاريخي.
ضمن التحولات التي أصابت النظام السياسي الإسرائيلي، وأدخلت إلى الأطر الدستورية لهذا النظام، شكّل "قانون القومية" وتوجهات القوى السياسية المهيمنة نحو الإقرار بـ"يهودية الدولة" وتشريع تغيرات دستورية عديدة، انقلابا ثانيا بعد الانقلاب الأول الذي جاء لتثبيت هيمنة القوى اليمينية والدينية المتطرّفة على مؤسسات الحكم الكولونيالي، بإفرازاته التي باتت تتضح أكثر فأكثر، تمييزاً عنصرياً وعرقياً فاقعاً، أخذ يتمأسس في المفاهيم الدستورية الجديدة، المصاغة أو التي يعمل على صياغتها وفق "قانون القومية" الأحادي الخاص بـ"يهوديةٍ" كريهة، تحضّ على التمييز ضد أصحاب الأرض التاريخية من العرب الفلسطينيين، وتوجيه سهام حقدها الأسود ضدهم، حتى وهم يحملون "الهوية الإسرائيلية" الفارغة من أي "مضمونٍ مواطني"، أو جوهراني، في عرف تمييز عنصري من جهة، وتفضيل عرقي من جهة ثانية، أضحى نظيره في العالم يقل بعد التحولات التاريخية المهمة التي جرت في جنوب أفريقيا.
انتهت الصهيونية ذات الصبغة العلمانية التي استمرت منذ العام 1948، وإنْ بقيت بشكل خجول، بعد الانقلاب اليميني الذي أسفرت عنه انتخابات العام 1977، بصعود قوى اليمين الديني المتطرّف، بفوز "الليكود" يومها، وبدء العمل على دسترة نظام سياسي أخذ في التحوّل
 إلى نظام أكثر كولونيالية، لجهة الاستيلاء على مزيد من الأرض ومخططات الضم الزاحف، وإقامة مزيد من المستوطنات التي باتت تشكل عماد النظام الاستعماري الجديد للكولونيالية الإسرائيلية، حين بدأت بترسيخ أركانها دولة دينية عنصرية فاشية الطراز، يشكل الاستيطان والضم الزاحف واللاحق عماد تصعيد العنصرية، ودعمها بمزيدٍ من العدوانية المتواصلة، مرتكزا طبيعيا لحركة استعمارية ادّعى قادتها أنها "حركة تحرير" من أطلقت عليه زورا تسمية "الشعب اليهودي"، بينما هو، في الحقيقة، ما فتئ حتى في واقع حمله "هوية إسرائيلية موحدة"، أشتاتاً من شعوب وأمم لم تنجح في توحيدها لا الأديان ولا المصالح المشتركة، في وقتٍ تعمل التقاليد والثقافة العنصرية على بقائها متباعدة، تفصل فيما بينها متاريس ليس من السهولة إزالتها، ولا التخفيف من وطأة مفاعيلها وتفاعلاتها المؤثرة، الضارة بإمكانية إعادة اللحمة والانسجام إلى عناصرها الفاعلة المتنافرة أصلا وفصلا.
في ثنايا قانون القومية، كما في خطابات اليمينين، العنصري والديني المتطرّف، تمهد الصهيونية، بطابعها الديني اليوم، لتطبيق سياساتها العاملة على تنفيذ مخططات الضم لمعظم مناطق الاحتلال الثاني عام 1967 في الضفة الغربية وصولا إلى الأغوار، وهي السياسة التي تقف اليوم في مقدمة أولويات قوى اليمين المتنافسة على تشكيل الحكومة وأجنداتها، لا سيما في ظل معطيات غير مناسبة وملائمة فلسطينيا وعربيا ودوليا لصالح القضية الوطنية الفلسطينية، حيث يصمت أو يعجز أو يتواطأ الجميع تجاه سياسات يمين ديني متطرّف، يمارس عنصريته على المكشوف، من دون ارتفاع أي صوت، ومن دون إجراءاتٍ يمكنها أن تعطل ارتكاب أو مواصلة عمليات التطهير العرقي التي مارستها الحركة الصهيونية، أكثر من سبعين عاماً، منذ بدأت نكبات التهجير والمجازر والطرد والاستيطان والتهويد، وصولا إلى "الأسرلة" التي نشهد مزيدا من فصولها المتتابعة اليوم، في ظل ظروف جامحة في تأييدها لكامل سرديات الاحتلال، دعما وإسنادا وحضا له على مواصلة ابتلاع الوطن الفلسطيني الأكثر تاريخية وحقائق واقعية من كثيرين ممن يتنطحون اليوم للتطبيع والتسامح تجاه جرائم الاحتلال ومجازره، والتواصل 
مع عدو قومي ووطني يحتل وطن شعب عربي عريق في تسطير مقاومة تاريخية عنيدة، هدفها الرئيس التمسك بحق تاريخي ثابت، وحقوق مقدسة تخص أمة بكاملها.
وفوق هذا كله، وفي وضع قيادي فلسطيني، يمضي في "تريّثه" ورهاناته الخاسرة على أسلوب في المفاوضات، هو أقرب إلى منطق ومنظور الاستجداء منه إلى أساليب التفاوض المعروفة، أظهر تقرير نشره مركز المعلومات لحقوق الإنسان في الداخل الفلسطيني (بتسيلم) أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، كيف تعمد السلطة الكولونيالية الإسرائيلية إلى اتّباع أساليب التهجير القسري للمواطنين الفلسطينيين من ممتلكاتهم وأراضيهم، بذرائع الأمن. ويسلط التقرير الضوء على سياسة يطبقها الاحتلال منذ 25 عاما في منطقة مركز مدينة الخليل، ملخصها تطبيق سياسة فصل معلنة تهدف إلى تمكين ثلّة من سكّان المدينة اليهود، من العيش وكأنّهم ليسوا مستوطنين في قلب منطقةٍ مكتظةٍ في مدينة فلسطينيّة محتلّة، تتجاهل هذه السياسة تمامًا احتياجات سكّان المدينة الفلسطينيّين، وتحكم عليهم بالعيش في معاناةٍ لا تطاق، معاناة تدفعهم إلى الرّحيل عن منازلهم وكأنّما بمحض إرادتهم".
هكذا تستمر الكولونيالية الاستيطانية الإسرائيلية بكامل مؤسساتها، في إعادة تكرار أساليب التهجير والترحيل القسري لأجيال من الفلسطينيين عن ممتلكاتهم وممتلكات آبائهم وأجدادهم، والمعطيات السكانية وفق تقرير "بتسيلم" تقدّم دليلا ملموسا على أن التكاثر السكاني في الخليل قد تداركه الاحتلال عبر دفع آلاف الفلسطينيّين إلى الرّحيل عن منطقة H2، و"ما كان يمكن ازدهار الاستيطان في الخليل وتثبيته، لولا الدعم التامّ من جميع الجهات الرسميّة وكل صانعي القرار في إسرائيل منذ 1968".
وفي ظل اتفاقات أوسلو، وسياسات اشتغالها وتطبيقاتها في السر كما في العلن، والتي أثبتت انحيازها لصالح المستوطنين ولمؤسسات الكولونيالية الاحتلالية، أريد للخليل، كما يراد لها اليوم، أن تكون الصورة النمطية التي تعكس نموذجا يمكن اتباعه في كل أنحاء الضفة الغربية، حيث أكد التقرير أن الاستيطان في الخليل شاذّ، من حيث إنّه يقوم في قلب مدينة فلسطينيّة كبيرة. ولكنّ السّياسة المتّبعة هناك، وإن كانت متطرّفة، فهي تماثل، في جوهرها، السّياسة التي تطبّقها مؤسسات الكولونيالية الإسرائيلية في بقيّة أراضي الضفّة الغربيّة. إنّها سياسة تعتبر أنّ أراضي الضفة وُجدت أصلًا لخدمة احتياجات إسرائيل التوراتية والأمنية، وهي سياسةٌ تتجاهل باستمرار مصالح الفلسطينيّين، وتقدّم عليها مصالح المستوطنين. أمّا الغطاء القانونيّ لهذا كلّه فتوفّره الأوامر العسكريّة والتوصيات القضائيّة وقرارات المحكمة العليا التي تشرعن وتبرّر جميعها استمرار الاحتلال والنهب والتهجير".
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.