سورية والعملية التركية

سورية والعملية التركية

13 أكتوبر 2019
+ الخط -
لا يرغب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في خوض الحروب. وكان هذا عنواناً لحملته الانتخابية، وقد أعلن مراراً على منصة "تويتر" أنه سيسحب قواته من هنا وهناك، وحدّد أكثر من مرة منطقة شمال سورية. وقد تكون رغبته في عدم خوض الحرب عجّلت برحيل مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، الرجل الذي يصرّ على استراتيجية حربية واضحة. بدت أميركا، منذ بداية الحرب السورية، مرتبكة، ينسحب ذلك على مستوى الدولتين، العميقة والسطحية، فيها، وكذا مؤسساتها المختلفة، وإدارتيها اللتين حكمتا خلال هذه الفترة. واقتصر التدخل الأميركي أيام الرئيس باراك أوباما على تسليح مجموعاتٍ صغيرة منتقاة، ثم سرعان ما تراجع هذا الدعم، وتحوّل أوباما إلى رجل مكافحة الأسلحة الكيميائية، إلى أن غادر البيت الأبيض مورّثاً خلفه ترامب هذا الملف. بحث ترامب عن مجموعةٍ منظمة على الأرض السورية، يمكنه أن يدعمها، ولم يجد إلا كرد المنطقة الشمالية، فوقع في إشكالات سياسية عميقة مع حليفه التركي الذي يكلف استعداؤه الكثير. ولكن تدخّله، ربما، كان بسبب غيرة سياسية، شعر بها من نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، الذي رسخ قدماً عميقة في سورية. 
كَبُرَ حجم القوة الكردية، بفضل الدعم الأميركي، وساهم وجود تنظيم الدولة الإسلامية في حصول الكرد على مزيد من الدعم لمحاربة هذا التنظيم، فهيمنوا على المنطقة الشمالية الشرقية، وحرِّمت أراضيهم على قوات النظام بشكل تام، وصار شرق الفرات خالصاً لهم، بما فيه كل الحدود الشرقية المتاخمة لتركيا، وكذلك الحدود المشتركة مع العراق، وامتدّت سيطرتهم إلى غرب الفرات قليلاً حتى منبج، وما يحيط بها، وتضم المناطق المذكورة معظم حقول النفط السورية وبعضاً من حقول الغاز، وتحتوي على مساحات شاسعة من أراضٍ تنتج القمح والقطن، ولديها كل المياه اللازمة لري هذين المحصولين الاستراتيجيين. شكّل الوجود الكردي، المليشياوي المسلح، ضغطاً على الدولة التركية التي رفضت وجود تجمّع عسكري معادٍ على حدودها، وحاولت أن تقيّد هذا التجمع بالمحادثات مع الولايات المتحدة، فراوغها ترامب بداية، واستغرق الأمر وقتاً، في عملية شد وجذب، حتى أعطى قبل أيام ضوءا أخضر متحفظاً، وأصبح بمقدور تركيا أن تقيم المنطقة العازلة التي ترغب فيها.
لم يكن الروس بعيدين عن هذا الحوار، فقد راقب بوتين، عن كثب، المحادثات التركية الأميركية. وألمح إلى عدم ممانعته في إنشاء منطقة آمنة بالطريقة التي تريدها تركيا، وأبدى اهتماماً أكبر بمدينة إدلب مع أريافها، ووصلت هذه الحسابات إلى نقطة بدء الهجوم التركي في يوم الخميس الماضي على المناطق الحدودية مع سورية، في عملية "نبع السلام". يمكن أن يتوغّل الجيش التركي، بمساعدة من مجموعات عسكرية سورية معارضة، إلى عمقٍ يصل إلى ثلاثين كيلومتراً، وهذا شرط أميركي، وقد يتجاوز ذلك بقليل، على الرغم من اعتراضات أوروبية وعربية، غير ذات فاعلية، صدرت عن بعض المسؤولين. ويدرك الجانب الكردي هذه الحقيقة، وقد يسارع بالانسحاب، بعد قليلٍ من المقاومة، لكنه سيتوجه بالتأكيد إلى ملاذ النظام، على الرغم من إعلان الأخير أن تقاربه مع الكرد مستبعد. يشوّش هذا الإعلان على إمكانية البت في حصول تقارب، ولكن تعطش النظام لمزيد من الأراضي قد يجعله يعدّل من خططه، وقد يقنع الحليف الروسي بذلك.. توجِد هذه العملية نقاط تماسٍّ مختلفة، هي حدود المنطقة الآمنة. وقد يلجأ الكرد إلى إطلاق أفراد من تنظيم الدولة الإسلامية الأسرى لديهم. ولكن في الواقع لا ينشئ الاختراق التركي وضعاً جديداً بقدر ما يعدل على أوضاع موجودة فعلاً، وسيتسع الشريط الحدودي الذي تسيطر عليه تركيا، ليشمل كامل الحدود السورية التركية، فيكسب الأتراك بضع أوراقٍ سياسيةٍ في المسألة السورية، ومزيداً من المسؤوليات في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية الذي قد يعاود نشاطه، ويمكن أن ترمّم هذه العملية العلاقات التركية الأميركية، إذا اكتفت تركيا بشريط حدودي بعمق مقبول، بينما يستعد الروس لخطوتهم التالية باتجاه جبهة إدلب.