أنا أحب الاستعمار

أنا أحب الاستعمار

13 أكتوبر 2019
+ الخط -
قادني التفكير، وأنا مستلقٍ على أريكتي المكسورة في بيتي الصغير في المنفى، إلى نتيجة غريبة: أنا أحب الاستعمار. .. كنت أتساءل: لماذا كلما أردتُ أن أستخدم ضمير المتكلم "أنا"، عليَّ أنْ أتواضعَ، وأقول أنا كاتب هذه الأسطر، أو أنا أخوكم، أو أنا خادم الأوادم والطيبين؟ ألا يعرف القاصي والداني أنني لستُ مغروراً؟ حسناً؛ حتى ولو أردتُ أن أكون مغروراً؛ هل يحق لي ذلك؟ أهلُ بلدتي، مَعَرّتمصرين، بمجرّد ما يلتقون برجل مغرور، يسألونه باستخفاف: حضرتك مغرور على أيش؟ ممكن تتكرّم علينا وتعدد لنا إنجازاتك؟ وللاستهتار به يقولون عنه، في غيابه: فلان مغرور، على وسخ ونشح. أنتم، بالطبع، تعرفون الموسيقار محمد عبد الوهاب. ذات مرة كان يتحدّث إلى قائد الفرقة الموسيقية، أحمد فؤاد حسن، وأتى على ذكر السيمفونيات العالمية، فقال: لما أنْتَ تسمعْ الحاجاتْ العظيمة دِيَّهْ، بتقولْ: إحنا جَتْ لِنَا نيلة.. أتساءل: إذا كان موسيقار الأجيال، الهرم الرابع، بجلالة قدره، يقول جَتْ لِنَا نيلة، فما حالُنا نحن؟
كنت صغيراً، وفي المدرسة كانوا يربّونني على كراهية الاستعمار. وكنت أكرهه طبعاً، وأحب مَنْ يكرهه، وأكره مَنْ يحبه. كراهية الاستعمار عندي خط أحمر. لكل دولة عربية استعمارُها الخاص، ونحن السوريين كانت فرنسا من نصيبنا. هنا لا يجوز استخدام المثل المصري "يا بَخْتِ مين رضي بالنصيب". ولا يجوز للمرء أن يتمنّى استعماراً آخر كأن يقول: يا ريت استعمرتنا بريطانيا ولا شفنا فرنسا. ممكن أن يقول لك قائل: بريطانيا "لسّه على أَلْعَنْ". المهم، لم نرضَ بالنصيب. قاومنا الاحتلال، وثرنا حتى طردناه. حرّرنا بلادنا من فرنسا بدمائنا. دَمُ الثوار تعرفه فرنسا/ وتعلم أنه نورٌ وحَقُّ. هكذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي. ويقول: وللحرية الحمراء بابٌ/ بكل يد مضرجة يُدَقُّ.
في "الاسْتِمَارات الأمنية" التي كنا نضطر لملئها في سورية، كنا نستخدم عبارة: كبرتُ، وترعرعتُ.. يا سيدي، أنا كبرتُ، وترعرعتُ، على كراهية الاستعمار؛ مع تعديل بسيط هو التالي: صحيحٌ أن فرنسا احتلتنا واستعمرتنا، ومنعت عنا "الحرية الحمراء"، إلا أن أميركا الآن هي رأس البلاء، وهي الراعي الأكبر للإمبريالية. والإمبريالية أَلْعَنُ من الاستعمار وأَدَقُّ رقبة. صرت أكره أميركا، وإسرائيل بالطبع، ولكنني لا أحب عمرو موسى، فقد سبقني "شعبولا" إلى حبه. أنا أحببتُ معمر القذافي. كان يقشعر بدني من شدة الفرح، حينما تُعْرَضُ على شاشة التلفزيون العربي السوري صورة لمدينةٍ ليبيةٍ كُتبت على أحد جدرانها عبارة "طز بأميركا". كنت أنظر، وقتها، إلى أميركا باستخفاف. وأقول في نفسي: إذا كانت هذه الدولة الصغيرة/ القاعدة في منتصف شمال أفريقيا، تصرح علانية بـ طُزِّها بأميركا، أفلا يعني هذا أن أميركا دولة تافهة؟ رئيسنا المناضل (لا يجوز أن تذكره من دون أن تصفه بالمناضل) هو الآخر غير مبالٍ بأميركا، حتى ولو لم يقل طز بها. عندما دعاه رئيسُهم إلى لقاء قمة، رفض الذهاب إلى أميركا، لأنها معقل الإمبريالية، ولم يدعه إلى دمشق، لأنها قلعة الصمود والتصدّي ولا تستقبل قادة إمبرياليين. أخيراً، وافق على مقابلته في مكان محايد. اكتشفتُ، خلال متابعتي لقاءات الرئيس المناضل مع المسؤولين الأميركان أنهم مصابون إما بالداء السكري أو بتضخم البروستات، وكان أكثر ما يغيظهم ويفلقهم أن مناضلنا لا يشخ.
في هذه اللحظة التاريخية، لحظتي أنا محسوبكم، استويت جالساً على الأريكة، وقلت لنفسي إن التصريح بأني أحب الاستعمار (ولا أحب عمرو موسى) يحتاج إلى وقفة جدّية وتفكير عميق، وإنه لا يجوز لواحد مثلي أن يمشي على مبدأ "الغاية تبرّر الوسيلة". ولكني لست وحدي الذي امتلكَ هذا الشعور، فمعظمُنا، نحن السوريين، من كثرة ما نزلت فوقنا قذائف وبراميل وصواريخ خلال السنوات الفائتة، صرنا نقول: يا ليت تستعمرنا القرود ونخلص من هذا الجحيم.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...